الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) وجوبه وفضله

سليمان بن حمد العودة

عناصر الخطبة

  1. منزلة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
  2. اعتناء السلف بها
  3. فضائلها ومزاياها

إخوةَ الإسلام: وثمةَ شعيرةٌ من شعائر هذا الدين جاء الحثُّ عليها، بل والأمرُ بها في كتاب الله، وأشاد بها وأهلها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، ومارسها المسلمون قديماً ولا يزالون يتواصون بها، وإن اختلفوا في أساليب تطبيقها وقوة القيام بها بين جيل وجيل، وطائفة وأخرى؛ هذه الشعيرة سببٌ لحصول كلِّ خير، والوقاية من كل شر، إنها شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وصف الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157]، وهذا الوصف بيانٌ لكمال رسالته؛ بل وُصف بها وتمثلها الأنبياءُ قبله، ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:120]، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً(55)﴾ [مريم:54-55]، وما من نبي إلا قال لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون:32].

ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114)﴾ [آل عمران:113-114].

ووصف بها الصالحون من هذه الأمة في غير ما موضع من كتاب الله من مثل قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة:71].

وهي من الفوارق الكبرى بين أهل الإيمان وأهل النفاق، فقد وصف المنافقون بنقيض ما وصف به المؤمنون في الآية السابقة: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:67].

عبادَ الله: لقد استنبط الحسنُ رحمه الله من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران:21] أن في الآية دليلاً على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلتُه عند الله منزلةَ الأنبياء، فلهذا ذُكر عقيبَهم.

بل عدّه بعضُ أهل العلم سهماً مهماً في الإسلام بعد أركانه الأساسية، عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: الإسلام ثمانيةُ أسهم: فالإسلامُ سهم ، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وصومُ رمضان سهم، والجهادُ سهم، والأمر بالمعروف والنهي وعن المنكر سهم. رواه البيهقي في شعب الإيمان.

ونقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه، وأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، كالنووي، والجصاص، وابن حزم. واعتبره شيخُ الإسلام ابنُ تيمية من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، تُقاتل الطائفةُ الممتنعةُ عنها.

أجل! إن خيريةَ هذه الأمةِ وفلاحها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110]، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104].

إنه الخيرُ الذي يؤمر به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، و"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت".

والرسالةُ الواجبةُ على كل مستطيع: "مَن رأى منكم منكراً فليغيرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان". وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل". إنها مسؤوليةٌ يمارسها الوالدان مع أولادهما، والمعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم، والمسؤول في عملٍ أو على فئةٍ مع من يتولى مسؤوليتهم، والعالم على الجاهل، والمعافى على المبتلى، والجارُ على جاره، والمسلمُ بشكلٍ عامٍ على أخيه المسلم حين يرى منه خطأً أو انحرافاً، أو يدعوه إلى معروفٍ وخيرٍ غائبٍ عنه أو جاهلٍ به.

وبالجملة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير همّ للجميع، ومسؤولية مشتركة، وهي تعكس خيرية المجتمع ووعيه، ولا سيما إذا حُملت للناس بقوالب جميلة، وحكمةٍ وموعظة حسنة.

ولقد كان للسلف اعتناءٌ بهذا الأصل العظيم وقيامٌ به، وكانوا يعدّون من لم يقم به من أهل الريب، فعن جامع بن شداد قال: كنتُ عند عبد الرحمن بن يزيد الفارسي، فأتاه نعيُ الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه، فقال: مات أخي الأسودُ، ثم قال: قال عبدُ الله: يذهب الصالحون أسلافاً، ويبقى أهلُ الريب، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما أصحابُ الريب؟ قال: قومٌ لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. رواه البيهقي في شعب الإيمان.

وكم تأسَنُ الحياة ويفسد الأحياءُ إذا لم يبق إلا أهل الريب! وكم تفشو المنكرات، ويغيب المعروف إذا قلَّ الصالحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر! وكم تتوارى المنكرات ويتستّر المفسدون بفسادهم إذا قويت شوكةُ الأمر والنهي، وكم يقوى سلطانُ الخير في النفوس، ويشيع المعروفُ في الناس، إذا قام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!.

تُرى يا أخا الإيمان: كم تُسهم في إحياء هذه الشعيرة بقولِك وفعلك وفي أي موقع كنت؟ أم تراك تسند الأمر إلى غيرك، وتحاول اختلاق المعاذير لنفسك؟.

لقد كان السلفُ يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء، وهذا حذيفةُ -رضي الله عنه- يُسأل: ما ميتُ الأحياء؟ قال: لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه. رواه البيهقي. وقيل لابن مسعود: مَن ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً. وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-.

أعوذ بالله من الشيطان: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء:114].

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله إمام المتقين، وخيرةُ الآمرين والناهين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين.

عباد الله: ويرتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضائلُ ومزايا حريَّةٌ بأن تدعو المسلم للحصول عليها، إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر على علم وبصيرةٍ بما يأمر به وما ينهى عنه، وبحلم وصبر، كما سيأتي البيان.

ومن هذه الفضائل والمزايا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات إيمان العبد، كما مرّ في الآية السابقة، وفي حديث عبد الله بن مسعود عن الخلوف التي تخلف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل" رواه مسلم.

ويقول الإمام أحمدُ موضحاً الفرق بين المؤمن والمنافق في القيام بواجب الأمرِ والنهي: يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمنُ فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يُشار إليه بالأصابع. قال الراوي -عمرُ بن صالح-: يا أبا عبد الله! وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟ فقال: يا أبا حفص، صيروا أمر الله فضولاً، وقال: المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا: هذا فضول، والمنافقُ كلُّ شيءٍ يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نعم الرجل! ليس بينه وبين الفضول عمل.

وهكذا تتجدد المصطلحات والاتهامات، وربما قيل للآمر والناهي: هذا متعجل أو متسرعٌ أو يتحدث فيما لا يعنيه، أو صاحبُ فتنة… وهكذا! والله المستعان!.

ومن فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه سببٌ للرحمة، وفي آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي، خُتمت بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71].

وما أحوج الخلق كلَّهم إلى رحمةِ الله! وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماء، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إنما قاموا بهذا الواجب رحمةً بالخلق، ولذا وُصف أهلُ السنةِ بأنهم يَعْلمون الحقَّ، ويرحمون الخلق.

وحصول الأجر العظيم ورد إثر الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس، كما في قوله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ ثم ختمت الآية بقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾. وهنا يلحظ المتأمل أن الأجرُ نكِّر ووصف بأنه عظيم، وكفى بهذين دلالة على عظمه.

والأمر بالمعروف بابٌ من أبواب الجهاد، بل أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الجهاد كلمةُ حق عند سلطان جائر.

وهو كذلك بابٌ من أبواب الصدقات، أرشد إليه -صلى الله عليه وسلم- فقراء المهاجرين حين شكوا أنهم لا يجدون ما يتصدقون به، فقال: "قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؛ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وبكلّ تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة".

وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُكفَّر السيئاتُ، وفي الحديث المتفق على صحته عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: كنا عند عمر، فقال: أيكُم يحفظُ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة كما قال؟ قال: فقلتُ: أنا، قال: إنك لجرئٌ! وكيف قال؟ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فتنةُ الرجل في أهله وماله ونفسه وولدهِ وجاره يكفّرها الصيامُ والصلاة والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر…" متفق عليه.

بل وصح الخبر أنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُضاعف الأجر، ويعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة، فقد روى أحمدُ -وحسَّنه الألباني- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ من أمتي قوماً يعطون مثل أجورِ أولهم، ينكرون المنكر".

عباد الله: ومن اللطائف أن حجية الإجماع لهذه الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:" ولهذا كان إجماعُ هذه الأمة حجةً، لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروفٍ وينهون عن كل منكر، هذا شيء، وشيء آخَر: الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، سمةٌ تميز أمةَ الإسلام عن غيرها من سائر الأمم".

وعن ذلك قال شيخ الإسلام: وسائرُ الأمم لم يأمروا كلَّ أحدٍ بكلِّ معروف، ولا نهوا كلَّ أحدٍ عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد، والذين جاهدوا كبني إسرائيل، فعامةُ جهادهم كان لدفع عدوِّهم عن أرضهم كما يُقاتَلُ الصائلُ الظالم، لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فطائفة منهم قالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:42]، والذين جاؤوا من بعد موسى علَّلوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم. اهـ بتصرف.

ألا فحققوا –عباد الله- خيرية هذه الأمة وتميزها على الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وحققوا الخيرية والتوبة لأنفسكم، وللناس من حولكم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

عباد الله: وثمة فضائلُ ومزايا للأمر والنهي، بل وعقوباتٌ وآثارٌ سيئة مترتبة على تركه أو التخاذل في أدائه، وهناك فقهٌ للأمر والنهي وآدابٌ وصفات للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإضافة إلى ذلك فهناك شبهات حَرِيَّة بالبيان، وهذه الأمور كلُها تحتاج إلى حديث آخر من خطبة متممة لهذه الخطبة.

أسأل الله الإعانة والتسديد، وأعوذ بالله من فتنة القول وفتنة العمل.

 


تم تحميل المحتوى من موقع