عناصر الخطبة
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله من أشرف العبادات، وأعلاها مقاما، حتى جعلها الله أحسن القول، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
والدعوة إلى الله -تعالى- هي سبيل محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه على الحقيقة، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
والدعوة إلى الله من أكثر الأعمال أجوراً وثواباً، فمن دل على خير كان له مثل أجر فاعله، لا ينقص من أجره شيئاً.
وهذا يدل على مكانة الدعوة إلى الله، وإلى عظيم منزلتها، وكبير شأنها، فبها تحيا القلوب بعد موتها، وتشفى بعد سقمها، وبها تنجلي عن الأبصار غشاوتها، وبها تتجدد معالم الدين، ويستنير الدرب للسالكين، وتقوم الحجة على العالمين.
ولكن الدعوة إلى الله، لا تنفع الداعي والمدعو حتى تقوم على أسس صحيحة، وهي: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- اللذان هما شرطا قبول جميع العبادات.
فإذا فقد الإخلاص، صار العمل هباءً منثورا، ليس للداعي من دعوته إلا التعب والنصب، كما قال تعالى: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)﴾ [الغاشية: 3 – 4].
وإذا فقدت المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الدعوة شراً ووبالاً على الداعي، وعلى المدعوين؛ لأن الدعوة عند ذلك ستكون دعوة إلى البدع والضلال، فالذين نشروا البدع بألسنتهم وأقلامهم ونفوذهم، كان كثير منهم حسن النية لا يريد إلا الخير والتقرب إلى الله، والفوز بما جاء من الوعد الكريم على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للدعاة إلى الله.
ولكن حسن النية وحده لا يكفي، وظن المرء نفسه أنه على الخير وهو على شر لا ينفعه، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾ [الكهف: 103 – 104].
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30].
فالتقصير في متابعة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته موضوعاً ومنهاجاً يجر إلى خطر كبير، وشر مستطير؛ لأن من نتائجه أن تنفصمَ عرى الإسلام عروة عروة، وأن تستحكمَ على السنة، وأهلها الوحشةُ والغربة.
عباد الله: من الناس من يجد في نفسه رغبة قوية في الدعوة إلى الله بالنصح والبيان، وتصدر المجالس، والوعظ بعد الصلوات، وزيارة البيوت والتغرب والأسفار في سبيل ذلك، ولكنه لا يأتي بيت الدعوة من الباب، وإنما يتسلق البيت من أعلاه.
إن من أراد أن يسلك طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله، فعليه: أن يتعلم دين محمد -صلى الله عليه وسلم- أولاً ثم يدعو إليه، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].
والبصيرة، هي العلم الشرعي الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.
يا إخوتاه! كيف يليق بمن كان غارقاً في الجهالة طوال سني حياته أن يكون الداعية والواعظ والمرشد والشيخ، وربما المفتي، بعد سويعات من التزامه، أو بعد يوم أو يومين؟
يجوب الأحياء والمدن، بل يجوب الدول للدعوة إلى الله.
إن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن هؤلاء يصدق عليهم الوصف النبوي في الرؤوس الجهال الذين يضلون ويضلون -والعياذ بالله-.
ولما تصدر للوعظ بعض الجهال في القرون الأولى اشتد عليهم نكير السلف من العلماء والحكام، كما فعل علي ومعاوية وابن مسعود وغيرهم -رضي الله عنهم- حماية للدين، ونصحاً للمسلمين.
رأى علي رجلاً يعظ الناس، وهو من الجهال، فقال له: هلكت وأهلكت!.
وبلغ معاوية: أن واعظاً يعظ الناس بمكة لم يؤذن له فاحضره وتهدده!.
وقال ابن مسعود قال" قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا!".
أما إني لا أعني حلق القصاص، ولكني أعني حلق الفقه.
وكان ابن عمر إذا قام أحد هؤلاء الجهال من القصاص والوعاظ يعظ الناس يخرج من المسجد، ويقول: "ما أخرجني إلا القصاص، ولولاهم ما خرجت!".
ومن الأخطاء البارزة التي يقع فيها كثير من هؤلاء: أنهم يتكلمون في المساجد بلا إذن من الجهات الرسمية المسؤولة عن شأن الدعوة، وإذا لم يأذن الإمام لهذا الواعظ غضب وغضب معه كثير من الناس، يظنون أن القصد هو الصد عن سبيل الله، والتضييق على الدعوة إلى الله، مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مختال".
وفي لفظ: "أو مرائي".
فمن لم يكن أميراً ولا مأذوناً له من قبل ولي الأمر فقد وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمرائي والمختال -والعياذ بالله-.
وما أحسن ما فعل كعب الأحبار، فقد كان يعظ الناس في مسجد حمص، فلما بلغه هذا الحديث توقف سنة كاملة، حتى جاءه الإذن من معاوية -رضي الله عنه-.
وهكذا ينبغي أن يفعل من طُلب منه أن لا يتكلم إلا بإذن، فالمقصد حماية الدين والعقيدة، واجتماع الكلمة، والبعد عن أسباب الفتنة والتفرق والاختلاف.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
أما بعد:
فإن من صور الدعوة إلى الله المبنية على جهالة: أن بعض الناس يبادر إلى تصوير بعض المنشورات، وتوزيعها في المساجد رغبة في الأجر والخير والمثوبة، وحين تنظر في هذه المنشورات تجدها تشتمل على بدع وخرافات، وتشتمل على مناهج مخترعة في الدعوة لم يشرعها الله، ولم يفعلها نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ كتلك النشرة التي فيها قصة المدعو بأحمد خادم القبر النبوي، كما يزعم، وأنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصافحه، وأنه يأمر الناس بكذا، وينهاهم عن كذا ..
ومثل النشرة التي فيها قصة الشابة المريضة التي رأت زينب في المنام، فشفيت!.
ثم في آخرها الوعيد لمن لم ينشرها والوعد بالرزق والوظيفة والمال لمن نشرها!.
والمقصود بها تعليق القلوب بغير الله وتقريب العوام من أهل السنة إلى التصوف والقبورية والخرافة!.
ومثل النشرة التي فيها مشاريع خيرية تستطيع تنفيذها في دقيقة واحدة، ومن تلك المشاريع المقترحة قراءة الفاتحة سبع مرات والاستغفار كذا وكذا من المرات!.
وفي هذه النشرة تزيين البدعة والحث عليها بدعوى الرغبة في الأجر؛ لأن العبادات لا يجوز تقييدها بعدد إلا بدليل، فمن شرع لك أن تقرأ الفاتحة سبع مرات في الدقيقة!.
ومن استمرأ هذه البدعة سهل عليه أن يتقبل بدعة ثانية وثالثة، والشيطان لن يقف به عند حد بعد ذلك.
ومثل النشرات التي تلعب وتعبث بالشعائر الدينية، وتدخل عليها أسماء وأوصافاً ما أنزل الله بها من سلطان، مثل بندول الاستغفار، وتذكرة الآخرة، إلى غير ذلك.
والله أعلم أين سينتهي المطاف بهؤلاء؟
لقد انتهى المطاف بأصحاب الحِلَق في عهد ابن مسعود إلى أن كفروا الصحابة، وحملوا عليهم السيوف، وهم في أول الأمر إنما أحدثوا بدعة الذكر الجماعي، وتقييده بأعداد معينة من عند أنفسهم.
فلا تستهينوا بالبدع مهما كانت صغيرة أو هينة في الأنظار، فإن الورم يبدأ صغيراً ثم يكبَر، حتى يقتلَ صاحبه.