عناصر الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.. أما بعد:
فما أعظمَ سِيْرَة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وما أعْذَبَ دراسَتَها، وما أجْمَلَ أحْداثَها، وأطيبَ حديثها، عِبرٌ، ودُرُوسٌ، وقَصَصٌ تشتاقوا لها النُّفوسُ.
بدراسِةِ السِّيرَةِ يَتَجَدَّدُ الإيمانُ، وبمعْرِفَةِ أخْبارِها يَسْتَرْجِعُ المرءُ الزمانَ. بَذَلٌ وجِهادٌ، وتضحية وفداء.
وإنَّ مِن أعظمِ أحداثِ السيرةِ غزوةً مَيَّز الله بها بين الصادقين والمنافقينَ، بين الخبيث والطيب ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179].
غزوة خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- إليها بنفسه، فكانت آخرَ غزوة غزاها النبي –صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلاثون ألفاً من أصحابه،، ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا من عذر اللهُ تعالى، أو منافقٌ كَذَبَ اللهَ ورسولَه، أو الثلاثة الذين ابتلاهم الله، ثم تاب عليهم.
أمَّا جهة الغزوة فهي جهة بعيدة، وطرقٌ وعرةٌ صعبةٌ في أطراف الجزيرة العربية الشمالية في منطقة تبوك.
أعلم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- الصَّحابَةَ جهتها ومكانها، وكان من عادته إذا خرجَ لغزوة ورَّى بغيرها إلا في هذه الغزوة لبُعْدِ مكانها وصعوبة الوصول إليها، فأعلمَ الصَّحابَة بها ليكونوا مستعدينَ لما أقبلوا عليه
خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- في صيفِ السنةِ التاسعةِ من الهجرة لمواجهةِ أكبرِ جيشٍ تعرَّض للمسلمينَ، وأقوى قوة عسكرية في وقتها تعادي في الدين، قوة الرومان؛ حيث حَشَدت النصارى حشودَها، وجمعت جيشاً بلغ الأربعين ألفاً، فجلبت معها من تنصَّر من قبائل العرب المجاورةِ لها.
فكانَ المسلمونَ أمامَ جيشٍ عَظيم، وخَطَرٍ داهِمٍ جسيمٍ قوةٌ متكبرةٌ.
أما ظرفُ الغزوة فهو من أصْعَبِ الظروفِ، قيظٌ شديدٌ، وافق قلَّة في المال، وقلة في الظهر فلم يكن المركوبُ ميسوراً لجميع الصحابة، ودواعي البقاء والمكث أكثر. طابت الثمارُ، واشتاقت النفوسُ إلى الظِلِّ والقَرارِ، ومع هذه الظروفِ يأتي القرارُ التوجيه الحكيم من النبي –صلى الله عليه وسلم- بوجوب النفر لقتالِ الرُّومِ ؛ لأنه رأى أنها معركةٌ فاصِلَةٌ تقطع دابر المعاندين، وتجهز على بقية أعداء الدين، وتنهي أطماع حثالة المنافقين.
ولقد أبلى الصحابة مع نبيهم –صلى الله عليه وسلم-، أبلوا في هذه الغزوة بلاءً حسناً مستجيبين لقوله تعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41].
وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123]، فلمَّا قلَّ المالُ، وأتت هذه الغزوة في ظرف اقتصادي شديد على الدولة الإسلامية، حتى سُمِّي ذلك الجيش بجيش العُسرة سارع أغنياء الصحابة فقدَّموا أموالهم، وعرضوا تجارتهم مع الله التجارة الرابحة، فهذا عثمان – رضي الله عنه – لما بلغه قول النبي –صلى الله عليه وسلم- من جهَّز جيش العسرة فله الجنة، ما كان منه إلا أن أتَى بألف دينارٍ فصبها في حجر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وقدَّم معوناتٍ أخرى للجيش كالإبلٍ وعُدَّتها فأعجب بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "ما ضرَّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم".
وجاء عبد الرحمن بن عوف فأنفق نصف أمواله. بل لم يقف الحدُّ عند صدقات الأغنياء، فهاهم فقراء الصحابة يسارعون ويتطوعون بما يستطيعون، فقد جاء أبو خيثمة الأنصاري بصاع تمرٍ، فلمزه المنافقون، وجاء أبو عقيلٍ بنصف صاعٍ، حتى قال المنافقون: "إنَّ الله لغني عن صدقة هذا"!
وهذه حالُ المنافقين يثبطونَ أهلَ الخيرِ عن خيرهم، وينشرون دعايةَ الشر في أوساطهم، وكان من تخذلهم أن أكثروا المعاذير لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يستأذنون في التخلف عن الغزو بحجج بالية، وأعذار كاذبة، حتى عاتب الله نبيه على إذنه لهم ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
وما زالت أيام هذه الغزوة تمضي شديدة على النبي –صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فساروا إلى ما نُدِبوا إليه .
وإذا أردت أن تقف على بعض أحوالهم في طريق سيرهم، ومدى الكرب الذي لحقهم فاستمع إلى ما حدَّث به ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال لعمر – رضي الله عنه – حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر – رضي الله عنه –: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديدٍ فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إنَّ الرجلَ لِيَنْحرُ بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عودك في الدعاء فادعُ الله لنا، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- أو تحبُّ ذلك؟ قال: نعم، فرفع النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى أمطرت السماء، فشربوا وملئوا ما معهم من أوعيةٍ، قال: ثم ذهبنا ننظرُ فلم نجد المطر جاوزت العسكر " قال ابن كثير: إسناده جيد.
الله أكبرُ، ما أقرب فرجَ الله لمن صدق مع الله، وكان بذله لله.
ثم وصل الجيش بعد جهد جهيد، وبعد شقة لم يلقوا عدوا مقاتلاً، ولا جيشاً مقاوماً دفع الله عن المؤمنين وأبطل كيد الكائدين، ونصر اللهُ أولياءه على أعدائه بالرعبِ.
وصالح النبي -صلَّى الله عليه وسلم- القبائل العربية المتنصرة في تلك النواحي بعد أن أيقنوا ألا في خير في عهودهم مع أسيادهم الأولين من النصارى.
أمضى النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة بضعة عشر يوماً يراقب النواحي ويرسل العيون، فلمَّا استوثق أنَّ العدو مستكن في جحره مستخف داخل حدوده رجع بأصحابه إلى المدينة بعد شدة وبلاء وشدة، كافأهم الله على صبرهم طمأنينة وعزة.
فالحمد لله أولاً وآخرًا، أقول قولي هذا….
الحمد لله معزِّ من أطاعه، ومذلِّ من عصاه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له..
أما بعد:
فإنَّ أخبار هذا الجيش جيش العسرة سجلها القرآن في صفحات عدة من سورة التوبة، وفي هذه الغزوة بل تلك المحنة دروس عدة فمن أعظم دروسها وأبين معالمها أنَّ المسلمين لم يهزموا من قلة، ولم ينصروا بكثرة، وإنما نصرهم إذا نصروا الله ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
فالله يدافع عن الذين آمنوا بأسباب ظاهرة وخفية، ولكن متى صدقوا مع الله!!
وإنَّ نصر الله كما هو بهزيمة الأعداء هزيمة عسكرية، حتى يورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم هو كذلك بهزيمة الأعداء هزيمة نفسية حينما يلقي الله في قلوب الأعداء مهابة المسلمين فيحسبون حسابهم ويخافون سطوتهم، فتصبحوا آراؤهم محل اهتمام من العدو واجتماعاتهم والقمم التي يعقدونها موطن تخوف منهم فلا يدرون بماذا يفجأهم المسلمون ؟
فهذا من نصر الله للمسلمين لو كانوا مع الله صادقين.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر".
وما تخلف هذا النصر عن المسلمين منذ سنين عديدة إلا لما تخلفوا عن أسبابه فأخبار النصر والتمكين لا تكاد تجد شيئاً منها إلا في صفحات التاريخ الذي لا عهد لنا به إلا أماني.
فسلسلة الهزائم على المسلمين وحلقات النكاية بهم من أعدائهم لا تزال مترابطة، ونحن نوثق هذه الحلقات ونقوي تلك السلسلة بإعراضنا عن ديننا وتزلفنا إلى عدونا وإقبالنا على ملاذنا واستهانتنا بتعاليم ربنا، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
فلقد تداعت الأمم إلى بلاد المسلمين باسم الحضارة ونشر الديمقراطية وحماية المنطقة، والقضاء على الإرهاب، أمور ظاهرها بزعمهم الرحمة و باطنها العذاب.
فافزعوا عباد الله إلى ربكم واصدقوا مع الله كما صدق أسلافكم من الصحابة ومن بعدهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] .
هذا هو طريق خلاصنا أمَّا منظمات دولية ومجالس أمنية فلم تنفع بالأمس حتى يرجى نفعها اليوم؛ فهم ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ [آل عمران: 118].
فاللهم ردَّ المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.
أيها الإخوة: لا تزال الحرب على رافضة اليمن قائمة بأمر الله، وجنودنا – بحمد الله – مقبلون غير مدبرين، لا تزيدهم الأيام إلا صلابة في موقفهم، وخبرة في مكر عدوهم، مدركون أنه لولا خيانات داخلية، وتواطؤ دولي لا يريد أن تنتهي الحرب إلا وقد أخذت من بلادنا ودول التحالف ما أخذت، والله غالب على أمره، وثقتنا بالله، وأملنا بحسن العاقبة، وحق هؤلاء المقاتلين والمرابطين الدعاء لهم بصدق، ونصرتهم بالتزام ما أمر الله به، والبعد عن معاصيه وما يغضبه في بيوتنا، وأفراحنا، وأسواقنا، وحفلاتنا ومهرجاناتنا. فإذا تم لنا ذلك فالله تعالى يقول: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].