عناصر الخطبة
دماء هنا وأشلاءٌ هناك, في العراق قصف وقتل وحصار, وتواطؤٌ من الكفار, تقود تلك الحرب الرافضةُ وبمباركة وتحالفٍ من النصارى.
وفي الشام الحالُ ليست بعيدة عن ذلك بل أسوأ, فما زال النصارى بقيادة روسيا, والرافضةُ ممثلةً بإيران وأذنابها يدكّون بلاد المسلمين, مخلّفين في كل ساعة آثاراً؛ أرواحٌ تزهق, وأبنيةٌ تهدم, وطرقاتٌ تقطع, ودمارٌ يحلّ, والحال ليست بعيدة عن ذلك في أماكن متعددة من بلاد المسلمين.
واقع المسلمين اليوم بات لا يسر, والكُربة عليهم قد زادت, ففي كل بلدٍ لهم مصيبة, وفي كل خبرٍ لهم فاجعة, حتى باتت الفواجع تمر بنا ولا تحركنا؛ لأننا فقدنا الإحساس مع تتابع الإمساس, ومع هذا فاليقين أن تدبير الله كله خير.
هذه العربدة النصرانية التي نراها اليوم, والتي بقيت عقوداً من السنين تتخفى وتتورّى, وصارت اليوم على العلن، ليست جديدة على ساحة المسلمين؛ فمن ينسى أخبار الحملات الصليبية المتتابعة؟.
في عام خمسة وتسعين وألف للميلاد أُعلِن أن بابا النصارى سيلقي كلمة هامة، نُقِل مكان إلقائها إلى أرض خارج المدينة، نظراً لازدحام رجال الدين والعامة, كان ذلكم البابا –كما قيل عنه- يتمتع بملكة خطابية متميزة، انطلق في خطبته تلك ذاكراً الضغوط المزعومة التي تتعرض لها الكنيسة المسيحية في الشرق, وبدأ يشوه سمعة المسلمين بأنهم خربوا الكنائس وهتكوا الحرمات, وفعلوا وفعلوا! تماماً كما يفعلون اليوم؛ وبدأ يدغدغ عواطف النصارى مرغّباً لهم بالحج إلى بيت المقدس, وأنهم إن خرجوا لقتال المسلمين فإنهم يُعطون من الكنيسة صكوك الغفران, وما زال يخطب في الجموع حتى أُعلن أول الحملات الصليبية, قال أحد المستشرقين: مما لا شك فيه أن نجاح الخطبة كان خارقاً، فانطلقت الجماهير تصرخ: هذه مشيئة الله!.
وقال: لقد تبين أن صك الغفران أكثر أهمية للشعب, وبخاصة عندما ارتبط مع فكرة الحج ذات الشعبية القديمة، وكانت مواعظ الحملة الصليبية تشرح بوضوح ذلك الفرق بين غفران عقوبات التوبة المعتادة وبين ما يزعم الآن من غفران لعقوبات جميع الذنوب!.
وكان في ذلك الوقت رهبانهم يتنقلون بين الناس يحركون عاطفتهم, وكان من أولئك الرهبان راهب اسمه بطرس، اشتهر بالوعظ, وكان يتجول حاملاً معه رسالة يزعم أنه تلقاها من السماء, ومفادها أن المسيحيين سيطردون المسلمين من الأراضي المقدسة بمجرد بذل المحاولة.
كل هذا هيأ الفرصة لتحرك النصارى, وتأمّل أنهم استخدموا لتحريك الناس تشويه صورة المسلمين, وانطلقوا من العاطفة الدينية النصرانية, وكان شعارهم في تلك الحملات هو الصليب, فقد أعطى البابا رهبانهم صلباناً من القماش يعطونها الذين أبدوا استعدادهم للمشاركة في الحملة، فثبتوها على أكتافهم.
وهذا الصليب القماشي أصبح من تلك اللحظة وعبر جميع الحملات الصليبية شعاراً للصليبيين.
وبدأت الحملات في عام ستة وتسعين وألف للميلاد، تصدى المسلمون للأولى, ونالت منهم الثانية, ثم استولى النصارى على بعض بلاد الشام, ثم بيت المقدس, وكانت السمة الظاهرة في عدوان النصارى على المسلمين أنهم إذا أتوا بلدةً قتلوا من فيها من المسلمين, حتى قال المؤرخون عن أكثر من مدينة: إنه لم يخرج منها مسلم واحد؛ بل قُتِل الجميع!.
وحين سقطت في أيديهم القدس في عام مائةٍ وألفٍ للميلاد قتلوا فيها أكثر من سبعين ألف مسلم, منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور عند المسجد الأقصى, ذكر ذلك ابن الأثير.
وكان من أسباب نجاح حملتهم حينها -غير ما سبق- الاختلاف الذي نشب بين المسلمين إذ ذاك, بعد وفاة الخليفة السلجوقي, والصراع بين أخيه وابنه, وصدق الله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46]، علاوة على تأليب الرافضة الباطنيين للنصارى على المسلمين حينها, ولا عجب؛ فهم قومٌ غدرٌ منذ القدم!.
وهكذا, حتى استعاد المسلمون بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي, وعادت لدولة الإسلام مرة أخرى.
وتكررت بعد تلك الحملة حملات, وظل المسلمون يقفون سداً أمام عبّاد الصليب, وحتى وقع الاستعمار المعلوم.
واليوم -يا كرام- يعود مكر النصارى مرة أخرى، والحق أنه ما توقف, لكنه اليوم بات واضحاً لكل أحد, وبنفس الأدوات السابقة, ففي الشام عن طريق الروس, وفي العراق وأفغانستان عن طريق أمريكا, وفي ليبيا وما حولها عن طريق الأوروبيين, الذي اختلف هذه المرة أنهم أتوا بلبوس المنقذين, فهم قد أتوا بحجة القضاء على داعش, وهم من استغلها ومن مكّن لها, فالأيام بينت أن النصارى إذا أرادوا قتل السنة دعشنوا أهلها, ثم حاصروها، ثم قضوا على معالمها واستولوا عليها, ثم سلموها للصفويين.
فالسكين الذي ذبحت أهل الفلوجة هي نفسها التي تحاصر الموصل, والتي تقصف أهل حلب, وهي التي تحرك الحوثيين في اليمن, وتزعزع الأمن في ليبيا, سكينٌ صفوية بأيدي صليبية, يساعدها منافقون نفعيون.
وبرغم ما في الأحداث من شدائد, برغم ما خلّفت من كروب, إلا أن يقيننا أن في طياتها فتحاً وخيراً عظيماً, ويكفي أنها من الله, وربنا لن يقدر إلا ما فيه الخير.
يكفي أنها أسقطت الأقنعة عن أقوامٍ خُدِع بهم بعض المسلمين, فبينت الأحداث أن سيوفهم مع عدوك, وأن قلوبهم كذلك معه.
يكفي أنها ميزت الصف وفضحت, فكم دعم بعض المسلمين زعماء وأفرادا, وظنوهم حلفاء, وحين جاءت الشدائد انفض من آخاك لأجل المال، لا لأجل المعتقد والدين.
يكفي أن الأحداث بينت للمسلمين أن عدوهم لن يرضيه تنازلهم مهما بلغ, حتى يتركوا دينهم, ورسخ في القلوب قول علام الغيوب: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:120].
يا مسلمين: ولا زال في الأمة خير كبير, وفي المسلمين من نقاط القوة الكثير, لئن كنا نرى قتلاً وحصاراً وتشريداً فإن جوانب الخير اليوم أكثر من أي وقت مضى.
الإسلام اليوم يكتسح الديار، وينتشر في عقر أوروبا وأمريكا وغيرها, الوعي الإسلامي, التمايز المعتقدي تحسّن.
نعم، ماتت نفوس بأجلها, ولكن حَيِيت قلوب وأنابت لربها. نعم، هُجِّر مسلمون كثيرٌ من ديارهم, لكن التهجير الذي يحلّ بالمسلمين منذ القدم كان سبباً لأن ينشروا الإسلام في ديار أخرى, ولم يرتدوا هم عن دينهم, كلّ هذا يؤكد أن الإسلام يؤثِّر ولا يتأثر، ويقوى ولا يضعف، ويتمدد ولا ينكمش، يحمله عامل بسيط فيصرع به أكبر فيلسوف.
لقد صارعت الماركسية الإسلام فتمزقت، وعادتْ كل البلاد التي فُرِض فيها الإلحادُ إلى إسلامها, وصارعته الليبرالية الرأسمالية وهي الآن تحتضر كمنظومة فكرية، وتتوحش؛ لأن الأفكار تتوحش وتكون أكثر قسوة ودموية حين تفقد تمددها على الأرض, حين يجتمع الخصوم من أجل مقاومة المد الإسلامي فاعلم أنهم عجزوا عن إيقاف زحفه وتغلغله, ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة:32].
فتفاءلوا وأمّلوا خيراً يا كرام.
قُل للذي مَلأ التشاؤمُ قلبَهُ *** ومضى يُضيِّقُ حولنا الآفاقا
سِرُّ السعادةِ حسنُ ظنك بالذي *** خلق الحياةَ وقسَّم الأرزاقا
اللهم احفظ عبادك، وأعلِ كلمتك، وانصر دينك.
عباد الله: نتساءل: ما الذي جعل الأعداء يتكالبون على أمة الإسلام؟ ونبينا -عليه السلام- يجيب عن هذا بقوله: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
عباد الله: في هذا الظرف العصيب الذي يمر بالمسلمين، وفي هذه الأيام الحافلة بالأحداث المتسارعة، وما تحمله من مفاجآت وأحداث كبرى، يبقى القول: ما هو الدور علينا؟ وماذا بوسعنا أن نقدم؟.
ألا وإن تقوية الإيمان بالله -تعالى-، واليقينَ بنصره لعباده، والثقة بدينه، من آكَد ما ينبغي أن نُعنى به.
إننا مسلمون, رفعَنا الله بالإسلام, ولن ننتصر إلا بالعودة له, ودينُ الله من تمسّك به فهو منصور، ومن تخلى عنه فهو مخذول، ولن ينتصر الباطل ولو سوّق له أقوى الناس، ولن يُهزم الحقّ ولو حمله أضعف الناس؛ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [غافر:51]، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47]، ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ [الصافات:171].
والتوكل على الله, وتعليق القلب به وحده, أعظم قوة وأنكى سلاح, فكفى تعلقاً بفلان وفلان, وبتلك الدولة وذلك الجيش, فإن مع المسلمين أعظم سببٍ لو تعلقوا به حقاً, والله! لو كادهم أهل الأرض قاطبة, والله ناصرهم، ما ضرّهم! لو اجتمعت قوى الأرض على حربهم والله معهم ما نالوهم! "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
والدعاء والإلحاح على الله أن ينصر المسلمين في كل مكان ويجعل العاقبة لهم, مطلب أكيد, وعمل يقدر عليه الجميع, وأعجز الناس من عجز عن الدعاء, فما نصيب المسلمين من دعواتك وتضرعك؟.
وإذا كان البلاء ينزل بسبب ذنب, فإنه لا يُرفع إلا بتوبة, ولربما أُتي من المسلمين من جراء ذنوبهم, العامة والخاصة, فإن أردنا نصرة الله فلنصحح التوبة ولنجددها, ولا نُلقِ الحِمل على غيرنا, أنا وأنت، لا تلتفت لمن وراءك, ربما أتي المسلمون من قِبَلنا, فأول طريق للنصر هو ترك الذنوب.
يا مسلمين: وترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في الجيل, وغرسُها في النفوس, والاهتمام باللغة العربية, فهما سبب قوة القلب, وإبقاء الهوية الإسلامية.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دورٌ عظيم في إحلال الأمن, ودفع النقم, إذ به يُردّ الخبث الذي إذا كثُر هلك الناس وإن كان فيهم صالحون, ولا زلنا ننتظر من ولاة الأمر إعادة روح هذا الجهاز, وفتحَ المجال للمؤسسات الخيرية والدعوية الخارجية, فبهما -بإذن الله- تُدفع الشرور وتستجلب الخيرات.
عباد الله: واليقين أن المسلمين إذا اجتمعت كلمتهم فلن يقف لهم عدو, فما أحوج المسلمين اليوم إلى أن ينفضوا عنهم الفرقة والشتات! ولن يجتمعوا إلا على راية التوحيد, والإسلام, وبغير ذلك لن يجتمعوا.
والقارئ للتاريخ يعلم أنه لن يُدحر العدو إلا الجهاد في سبيل الله, والأمة تحتاج لعالمٍ يبصّرها, وقائدٍ يجمعها ويتقدمها.
والأحداث -بإذن المولى- في العراق والشام واليمن وغيرها ستنجلي, ولكن طوبى لمن كان له سهم في نُصرَةِ الدين ودحر الرافضة والصليبيين, وجمع كلمة المسلمين!.
ولئن يبقى المسلم متمسكاً بدينه, ثابتاً على مبدئه, فإن هذا لهو أعظم انتصارٍ يحققه؛ ولو مات عليه, فذلكم هو الفوز الكبير.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك, وعبادك المسلمين.