عناصر الخطبة
الحمد لله الذي تم سلطانه، وعلا قهره، وتفرد في ملكه وجبروته، أمضى ما شاء ويشاء في خلقه، وأحاط بكل ما خلق علماً وقهراً؛ أخذ بنواصي الخلق، وقبض على أنفاسهم وما يشاءون، فلا يكون منهم إلا ما يشاء سبحانه.
أشهد أن لا إله إلا هو، هو الله الواحد الأحد، الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وخَلَقَ كُلَّ شيء فقدَّرَه تقديراً؛ وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، السابق للعالمين فضلاً، والمقدم منزلةً ومكاناً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلمَّ تسليماً ما تعاقب الليل والنهار، وما جرت الأنهار، وبقيت البحار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنها فرقان من ربكم بين الحق والباطل، لا سيما في الأمور المشتبهات، وتكفير للسيئات، وعلو للدرجات والمقامات، (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُ والْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].
عباد الله: الكون كله محل خلق الله تعالى، ومسرح أفعاله سبحانه، فما يكون في هذا الكون -ولو من ذرة صغيرة- إلا بما شاء الله وأراد؛ ولذا فكل حركة وسكون، وكل شيء، يرجع إلى أسماء الله وصفاته سبحانه، كما أنَّ نبأ الخلق وأحداثهم وتقلباتهم في كتاب الله تعالى، ففيه تجد نبأهم جلياً، وخبرهم مفصَّلاً؛ إذاً فنبأ الكون كله في كتاب الله تعالى الذي بين أيدينا، والكون كله راجع إلى أسماء الله وصفاته ﴿أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف:54].
ومع هذا التقرير العقدي الضخم الهائل في تصوره وأثره وقوته الذي يملكه أهل الإسلام، مِنَّةً من الله وفضلا، إلا أنَّ تفعيله وتطبيقه عند أهل الإسلام بات باهتاً، إنْ لم يكن ميتاً، كأنهم ما يملكون شيئاً عن ربهم تبارك وتعالى.
وبما أننا لا نزال نعيش أجواء أزمة عالمية، وتتحطم البشرية الشاردة عن منهج الله تعالى مظهرةً تمام عجزها عن إنقاذ أموالها وحماية اقتصادها، وهي التي ما فتئت تتعالى قائلة: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت:15]، وهل في الكون إله غير الإنسان؟! مغرورة بما علَّمَها ربها، متعجرفة بما فتح الله عليها من علوم وكنوز؛ ألا ما أفجر الإنسان! ألا ما أكفر الإنسان! ألا أنه لحَقٌّ فيه كلام ربنا سبحانه: ﴿قُتِل الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَه!﴾ [عبس:17]، تعالى الله وتقدس سبحانه!.
لقد شهد العالم في الأيام السابقة كارثةً مالية، وإعصاراً مدمراً أحاط بأمواله، ونسف ترليوناته، فهل ترى لها من باقية؟ إنها قارعة! إنها باقعة! أتتهم من حيث لا يحتسبون، فمحقت تلك الأرصدةَ والأرقامَ الفلكيةَ التي بنيت من محاربة الله، ولمحاربة الله، فكان ربنا لها بالمرصاد؟!.
أيها المسلمون: كم في هذه الأزمة من دروس وعبر؟! كم فيها من آيات ونذر؟! إنها لتزيد المؤمنين بآيات الله وكتابه إيماناً ويقيناً، واليوم نتدارس بعض دروس هذه الأزمة وعِبَرها.
فأُولى عِبَرِها ودروسها أن المناهجَ البشريةَ لا تذوقُ منها البشريةُ إلا الشقاءَ والعناءَ والدمارَ، الذي يجتاح الأنفس والأرواح والبطاح والأموال؛ ولذا فهي غيرُ قابلةٍ للبقاءِ والاستمرارِ، فلا بد من تطهير الأرض منها ومن سلطانِها ليبقى منهجُ الله الآمن، الكفيلُ بالسعادةِ والطمأنينةِ والخيرِ في الدنيا والآخرة؛ لأن بقاءَ المناهجِ البشريةِ الشاردةِ عن الله، القائمةِ على منازعة الله تعالى، ومضادَّةِ منهجِه، ومحاربةِ أمره، عفنٌ للدنيا وأهلِها، دمارٌ وخبثٌ يجتاح الأرض، إنها رجسٌ للأرض وأهلها، إنها نجسٌ تضيق به الخلائق، لا بد إذاً من التطهير والتدمير، وهذا ما كان في هذه الأزمة.
إن هذه الأموالَ الهائلةَ التي محقها اللهُ تعالى قامت على منهجٍ بشري طاغٍ عاتٍ تبنته معظمُ دول العالم الغربي اليوم، شرقيه وغربيه ، هو المنهج الرأسمالي الليبرالي، ذاك المنهج الكالح القائمُ على التنافس الحر في الهيام الشهواني بالدنيا، ثم تجميعِ المال في أيدي حفنة من الناس من كبار التجار، والبقية الباقية من الخلق ما هم إلا عمال في مصنع الاستهلاك العالمي من الدرجة السفلى تكدح من أجل خدمة عصابة تتهارش على كسب عرق الناس، واستلاب أموالهم، بل إنها لتتنافس في صناعة شباك الاحتيال؛ لأخذ ما بأيدي الناس من مال، عبر إفراز طرق كسب تصب مُحَصِّلَتُها النهائية في أرصدتهم البنكية، كالأسواق المالية، والبورصات العالمية؛ وطرق أخرى يغرون بها الخلق للثراء السريع، والحياة الرخية الأنيقة، وما أكثرها اليوم! وما بيوع التقسيط والتسهيلات إلا أصدق مثال لهذا الاحتيال، فكان في تدمير هذه الأموال تدمير للمنهج الذي قامت عليه.
ومن هنا أقول: إن هذه الأزمة ليست دماراً فقط للأموال والربا، بل هي تدمير للمنهج الليبرالي كله، رأسماله وحريته الفكرية وحريته الشهوانية، دمار دمار، وأي دمار؟! فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ ولكن، أين بني قومنا عن هذا؟ إنها أزمة وآية من آيات الله تقول يا أهل الإسلام! لا غير دين الله يبقى، ولا غير دين الله يسعد البشرية، ولا غير منهج الله ينقذ الناس من الأزمات، وينأى بهم عنها؟ ألا تعقلون؟ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِن اللهِ حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:50].
أن الافتتان بالدنيا وبهرجِها، والجشعَ في كسبها، بلاءٌ ماحق، وعذابٌ ساحق، لقد باتت الدنيا اليوم طاغوتاً يُعبد من دون الله تعالى، أشغلت العباد عن حق الله المعبود، وأضحوا لا يتورعون عن حلال وحرام، يلهثون خلف النزوات، ويجرون بظمأ وراء الشهوات، يتنادون ويتواصون يقول بعضهم لبعض: الحَقْ قبل ما تفوتك الفرصة، تراها فرصة لا تعوض ولن تتكرر!. وهكذا يتساقطون بعضهم فوق بعض.
لقد باتت الإنسانية اليوم حيوانا استهلاكيا يستهلك كل شيء في حياته، ويخوض فيه بلا تقيد بأي شريعة، ولا أي مانع ولا حلال ولا حرام، إنها فوضى في الاسترزاق والإنفاق.
وجاءت الأزمة لتعيد لمن خاف يوم الوعيد، وترقَّب لقاء الله المجيد، حقيقة الدنيا، وأنه ما هي إلا متاع زائل، وما هي إلا متاع الغرور إن هي إلا (كَمَاءٍ أنزلناه مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَ ونَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24]؛ فيقف على حدود الله معظماً لله، راغباً في الآخرة، متجافياً عن فتنة الدنيا، لا تغره الإعلانات التجارية التي تلاحقه في كل مكان؛ لأنه يعلم أن أصحابها ما هم إلا دعاة خاسرون.
إن محاربة الله تعالى وشريعته وتنكب منهجه هذا مصير أصحابها، ومآل حالهم ومحاربتهم، إن هذه الدول التي حاقت بها الأزمة قد أعلنت الربا ومحاربة الله تعالى، والله تعالى توعَّدَ فقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِن اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة:279]، لقد شُيَّدَ ثراءُ الدول اليوم، وبُنيت الشاهقاتُ من المباني والقصور على هذا الربا الخبيث، فكيف لا يمحقه الله تعالى ويدمره، وقد أنَّت البشرية من كلكله وضج الفقراء من استعباده؟ و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا﴾ [البقرة:276].
بل إنها بهذه الأموال التي أحاطت بها كلمة الله التي لا تُرّدُّ عن القوم الظالمين حاربت منهج الله في الأرض، وقتلت بها بشريةً لا يحصيهم إلا الله، ودمَّرَتْ بها دولاً، ووأدت بها أجيالا من الأطفال والنساء، إنها أموال أعدت لمحاربة الفئة المجاهدة في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين وفي بقاع من الأرض، أفلا يدمرها الله؟! أتكون في منأى عن سنة الله في الظالمين؟! أيبقيها الله وهي تصنع ما تصنع من محاربة لدينه، وتحريف لمنهجه، واستهزاء بنبيه، وقتل لأوليائه، دون أن يذيقها بأسه الشديد؟! كلا والله! إنها لن تفلت من عذابه.
إنها أموال أرصدت لزعزعة دين الأمة وثوابتها عبر الإعلام ومراكز البحوث والقنوات الفضائية وغير ذلك، وبثِّ الشُّبَهِ في قلوب المسلمين، وصد غيرهم عنه، وإغراق الأمة بالشهوات والشبهات، مما فتن به أقوام من المثقفين وحمَلَة الشهادات العالمية، فخلعوا من ربقتهم منهج الله، واستقبلوا الليبرالية الغربية قبلة ودينا ومنهجاً يبثونه في العباد والبلاد. أتبقى هذه الفتنة ولمـــــــَّـــــا يُميِّز الله بين الحق والباطل؟ فجاءت الأزمة فأزهقت أمريكا ومناهجها الباطلة، وأبقت تقول إن منهج الله هو الحق.
الله أكبر! إنه الله تعالى! إنها أموال قامت على مبدأ قارونيٍّ كبريائي ينكر فضل الله عليه، ويجحد حق الله فيه، لقد قال قارون من قبل: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [القصص:78]، فكانت العاقبة أَنْ خَسَفْنا به وبداره الأرض، ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ [القصص:81]، فما هؤلاء إلا أشياع له من بعد، نزل بهم ما نزل بكبيرهم الأول قارون بني إسرائيل، فهل من معتبر؟!.
أنها رسالة إلى كل مسلم أن أعِدْ نظرتَك للمال، وطريقة كسبك له، وإنفاقك له، وتأمل منهج الله في ذلك؛ ولذا فإني أقول -وبمرارة- إن أغلب حياة المسلمين اليوم الاقتصادية حياة بعيدة عن منهج الله تعالى، لا في الكسب ولا في الإنفاق ولا في الاستهلاك؛ وإلا، فأين حق الإسلام ومنهج الله من أقوام اليوم يبنون ناطحات السحاب والأبراج العاجية الشاهقة وبمقربة منها فقراء لا يجدون لقمة تسد الجوعة، ولا بناءً يأوون إليه، ولا لباساً يسترون به العورة؟! ناهيك عن الإسراف في الإنفاق على المهرجانات والحفلات والزينات؟!.
يا الله! أهؤلاء يتلون في كتاب الله: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة (11) ومَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَو إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16)﴾ [البلد:11-16]. ما لهم لا يفكرون في فقير؟ ولا يسعفون مَديناً؟ ولا يُطعِمون مسكينا؟ أرأيتم كم هو البعد عن منهج الله تعالى والتأثر بالمنهج اليهودي المحادّ لله القائم على الأثَرة: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة:96]؛ وبالتالي، فهل نراجع أحوالنا، وندرأ بما شرع لنا ربنا عذابه عنا، ونبتغي بركة المال بالإنفاق؟.
أنْ يعقِل أهل الإسلام أنَّ جُلَّ المعاملاتِ القائمة اليوم في الاقتصاد العالمي معاملات محرمة مضادة لله تعالى ومُحَادَّة، من الربا والغرر، والاحتكار والجشع، ووسائل للنصب والاحتيال، وغير ذلك؛ والبلاد الإسلامية عمت فيها هذه البلية، وانتشرت بها المعاملات المحرمة التي أفرزها دهاقنة المال العالمي، وعليهم أن يحترزوا أشد الاحتراز، وإلا فإن "الهوامير" المحتالين الجشعين لهم بالمرصاد، وعليهم أن لا يغتروا بفتوى أو شبهة أو شهوة ونزوة، فليذكروا أموالاً لهم أكلت في سوق الأسهم والتسهيلات والقروض والتورّقات، مغترين بفتاوى، ولاهثين وراء بريق زائف.
ووالله! ما أنجى العبدَ مثلُ الوقوف على أمر بَيِّن، فقد استبان أنه لا فرق بين سوق غربية ولا شرقية ولا إسلامية، كلها مقامرات ومضاربات عشوائية، وصناعة رأسمالية، فليحذر عباد الله منها.
أنها فرصة لأن نحيي في أنفس المسلمين الحياة بما بين أيديهم من كتاب الله تعالى، إنها فرصة، وأي فرصة؟ إن نبأ هذه الأزمة في كتاب الله تعالى نجدها في وعيده -سبحانه- لأكَلَة الربا يوم قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾ [البقرة:275-276].
فكان هذا الترنح، وهذا التخبط، وهذا المحق نجده في إخباره -سبحانه- عن إهلاكه لأمم الطغيان السابقة، (وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَ وتَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [الرعد:31]، إنها طوفان كطوفان الله الذي أغرق به قوم نوح لا ينجو منه إلا مَن رحم الله، ولاذ بركنه وشريعته، (لَا عَاصِمَ مِن أمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود:32].
إن من يستبطئ هلاك المجرمين عليه أن يعلم أن ما من قوم أهلكهم الله وإلا وقد استبطؤوا عذاب الله واستعجلوه، فأهلكهم الله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود:32]، فكان الطوفان الهالك الماحق الساحق.
إننا نستحضر يوم نرى تهاوي الاقتصاد الغربي بالذات قصة قوم عاد الذين أعجبوا بَما زَادَهم الله فِي الْخَلْقِ من بَسْطَةً، وما أعطاهم اللّهُ من آلاء، وما أَمَدَّهم به من أَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَبنُونَ بها في ِكُلِّ رِيعٍ آيَةً يعْبَثُونَ، وَيتخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّهمْ يخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْوا بَطَشْوا جَبَّارِينَ مستكبرين فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَائلين في كبرياء وغرور: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟! أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُو أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟!﴾ [فصلت:15].
لقد نسِيَتْ أُمَمُ الكفر اليوم هذا الأمر كما نسيته عاد من قبل، ومع ذلك لا يلقون لموعظة سمعاً ولا تذكراً، بل يقولون: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ! كحال كفار اليوم، فأهلكوا بريح من الله صرصر عاتية كريح النحس التي أرسلها الله على أموال الرأسماليين اليوم.
نستحضر كذلك قصة قوم ثمود الذين َبَوَّأَهم فِي الأَرْضِ يتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا، وَينْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَارِهِينَ، متمتعين فِي مَا أعطاهم، آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيم، فأعرضوا عن دعوة الرسل، وأطاعوا أمر المسرفين، الذين يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ،كما يطيعهم اليوم الظلمة الفرعونيون القارونيون.
إن الغرب -وبالخصوص أمريكا- قد تقاسم بالله طغاته ليبتونَّ أهل الإسلام في كل مكان كما تقاسم من قبل قوم ثمود على صالح: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل:49]، وهم اليوم يمكرون مكراً كما مكر قوم ثمود من قبل: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ إلا أنَّ الله يمكر بهم كما مكر بمن مكر من قبل، ﴿وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون(52)﴾ [النمل:50-52].
أفلا نعتبر يا قوم؟! نستحضر قصة قوم شعيب الذين بخسوا الناس أشياءهم كما يبخس ملأ الرأسمالية الناس اليوم أشياءهم، والذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما تفسد أمريكا وأوروبا ومن معهم الأرض من بعد إصلاحها، والذين طففوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ولم يزنوا بالقسطاس المستقيم كما يفعل كفار اليوم، وَالذين قَعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ يوعِدُونَ من آمن وَيصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ، كما تفعله أمريكا اليوم من الصَّدِّ والتوعُّدِ لأهل الإسلام، لقد توعد الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِ شعيب شعيباً: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَو كُنَّا كَارِهِينَ﴾ [الأعراف:88]، كما يتوعد بوش وأضرابه أهل الإسلام إما أن يكونوا معنا أ وضدنا، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.
لقد استنكر قوم شعيب أثر الصلاة على المال فقالوا: ﴿يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود:87]، كما قالت الليبرالية اليوم: ما شأن الدين في الاقتصاد؟ دعوا الناس أحراراً يفعلون ما يشاؤون.
فكانت نهايةُ مَدْيَنَ نهايةً بالرجفة في دارهم، تخلع أجوافهم، وتقطع أنفاسهم، وهاهي الرجفة تجتاح أمريكا وسدنتها من أجواف بنوكهم، وتترجف أفئدتهم، هلعاً وخلعاً ورعباً، آية الله في الظالمين.
أيها المسلمون: ولربما خفف الله عنهم الأزمة فيفيقوا من بعدها فيفتح عليهم أبواب كل شيء بما لم يفتحه عليهم من قبل من بعد هذه الأزمة، فيطغوا وينسوا، فتحق عليهم آية الله التي نتلوها، إذ قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:42-45]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(95)﴾ [الأعراف:94-95].