عناصر الخطبة
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي يُتابِعُ على عباده المواسِم، وقد جعل شهر رمضان من خيرِها، وجعل فيه الفتوحَ والوقائِع الحواسِم، فكم له – سبحانه – في شرعِه من أسرارٍ وألطافٍ، وفي قضائِه وقدرِه تفريجٌ مما نحذرُ ونخاف.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل دينَه وأمةَ الإسلام وسطًا، وحذَّر ممن غلا في دينِه واستحلَّ دمَ المُسلمين وسطَا.
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، بشَّر بهذا الشهر واستبشَر، وأرى اللهَ من نفسِه خيرًا فاجتهَد وشدَّ المِئزَر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وخُلفائِه أبي بكرٍ رفيق الهِجرة والغار، وعلى عُمر قتيلِ المجوس وعُبَّاد النار، وعلى عُثمان وعليٍّ قتلَى الخوارِج كلاب النار، وصلَّى على سائر أصحابِ النبي وأتباعِه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أكرمَنا الله بشهر الصيام، وجعله زادًا للتقوى ومربَحًا للأجور، وكفارةً للآثام. وأنتم في شهرٍ فُرِضَ عليكم لتتقوا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].وفي خِتام آياتِ الصيام: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187].
أيها المسلمون: شهرُ رمضان المُبارَك فرصةٌ لمن كان في حياتِه مُقصِّرًا ليلحَق، ولمن استحقَّ بذنبِه النارَ ليُعتَق، ولمن كان في طاعاته متأخرًا ليكون الأسبَق. ومن أدركَه شهرُ رمضان ولم يُغفَر له فأبعَدَه الله!
وقد قاربَ شهرُنا أن ينتصِف، إلا أن مراكِبَه لم يزَل فيها مُتَّسَعٌ لمُستعتِب، وليالِيَه لم تزَل مطايا للظاعِنين إلى عفوِ الله ومراضِيه، ومُوصِلةً لمن شفَّه الشوقُ لأن يكون في رِكابِ المُقرَّبين، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 10- 14].
فأرُوا اللهَ من أنفُسِكم خيرًا، وادِّخِروا من هذه الأيام لحياتِكم الأُخرى؛ فإن الأيام تُطوَى سِراعًا، ويُساقُ الأحياءُ إلى قبورِهم تِباعًا، وما ثمَّة إلا العملُ الصالح ورحمةُ أرحم الراحمين.
أيها المسلمون: في مثلِ هذه الأيام من رمضان، وقبل ثلاثٍ وثلاثين وأربعمائةٍ وألفٍ من السنين .. حدثَت غزوةُ بدرٍ الكُبرى، والتي سمَّاها الله: "يوم الفُرقان" .. وهي أولُ مُواجهةٍ عسكريةٍ في الإسلام. تبِعَتها مغازٍ وحروب، فرضَها نُشوءُ الدولة المُسلمة الحديثة وكثرة مُناوِئيها.
ومنذ ذلك الحين نشأَت مبادئُ حربٍ لم تُعرف في مبادِئ الأمم السابقة، ولم تُعهد في سُلوك المُحارِبين، امتزجَ الحزمُ فيها بالرحمة، حتى قال أحدُ المُستشرقين: "كان المُسلمون أرحمَ غُزاةٍ عرفَهم التاريخ".
كان القتالُ في مُواجهة من حمَلَ السلاحَ فحسب، وكانت أُولَى الخُطوات بعد التمكين: تأمين الناس، ووضعَ المظالِم والآصار عنهم، وعدمَ إكراه الناس على الدخول في الإسلام.
وكانت وصايا النبي – صلى الله عليه وسلم – وخُلفائِه للمُجاهِدين: «اغزُوا ولا تغلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتُلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المُشركين فادعُهم لثلاث خِصالٍ، فأيَّتُهنَّ ما أجابُوك فاقبَل منهم وكُفَّ عنهم»؛ رواه مسلم.
وفي وصايا أخرى منه ومن خُلفائِه وقادة جُنده: «لا تغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تقتُلوا وليدًا، ولا امرأةً، ولا كبيرًا فانيًا، ولا مُنعزِلاً بصومَعة، ولا تُؤذُوا راهبًا أو عابدًا، ولا تعقِروا نخلاً ولا تحرِقوه، ولا تقطعوا شجرةً مُثمرةً، واتقوا الله في الفلاحين».
وهذه الوصايا في حالِ المُواجَهة مع كُفَّارٍ مُحارِبين؛ بل فوق ذلك .. فإنه يجبُ الإمساكُ عمن نطقَ الشهادتَين – وإن كان سيفُه يقطُرُ من دمِ المُسلمين -، كما في خبرِ أُسامة بن زيدٍ المشهورِ في "الصحيحين"، ولما اعتذرَ أُسامةُ – رضي الله عنه – بأنه إنما قالَها مُتعوِّذًا. قال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أفلا شقَقتَ عن قلبِه؟! ماذا تفعلُ بـ لا إله إلا الله؟!».
أيها المؤمنون الصائمون: رمضان شهر الذكريات والفتوحات والانتِصارات: في رمضان كانت غزوة بدرٍ وفتح مكة، وغيرُها مما كان سببًا في رِفعة الإسلام، وحفظِ الأمن، وقِيام الحضارات.
تمُرُّ بنا هذه الذكريات والأمةُ مُثقلةٌ بالآلام، مُثخنَةٌ بالجِراح .. تمُرُّ بنا هذه الذكريات والمسلمون اليوم أكثرَ ما كانوا حملاً للسلاح، وبذلاً للأرواح، ولكن على بعضِهم .. والصائمُ يقتلُ صائمًا، والمُصلِّيان يقتتِلان، وكلٌّ منهما يُريد الفردوسَ بدمِ صاحبِه! في مشهدٍ فوضويٍّ يجعلُنا نشهدُ موسِمًا للانكِسارات والانتِكاسات.
تُطيفُ بنا ذكرى معركة بدرٍ وأخلاق المُسلمين في حروبهم .. وكثيرٌ من بلاد المُسلمين اليوم بها احتِراق، وبأيدِي كثيرٍ منهم أسلِحةٌ وحِراب. وعلى رغمِ احتِلال بعضِ ديارِهم وتشتِيتِ أهلِها، إلا أن السلاحَ مُوجَّهٌ لإخوانهم.
وتحوَّل معنى التحرير عند بعضِهم إلى استِلابِ أرضِ إخوانهم المُسلمين التي بها مساجِدُهم وبيوتُهم وأسواقُهم .. وصارَ القتلُ عند الكثيرين منهم تسليةً ومُتعةً، وفي أحوالٍ منه لأسبابٍ لا تستدعِي العتَبَ ولو باللسان.
وألبَسُوا جريمةَ انتِهاك الأعراض لباسَ السَّبيِ، والمسبِيَّات هنَّ نساءٌ مُسلماتٌ من ذُرِّيَّة مُسلمين، في هوَسٍ مجنونٍ يستبيحُون ذلك باسمِ الله وشرعِه، وهمُ الذين أساؤوا للدين على نحوٍ عجزَ أعداؤُه أن يبلُغوا ما بلغَ أولئك في الإساءة، في أعمالٍ قد تفوقُ ما عمِلَته جيوشٌ مُتوحِّشةٌ سطَّرَت أخبارَها كتبُ التاريخ.
فاجتمعَت شِرذمةٌ جاهلةٌ، زالَ الدينُ من نفوسِهم، وامَّحَت الإنسانيةُ من صُدورهم، لعِبَت بها مُخابراتُ العدوِّ لُعبتَها، ووجدَت في خواءِ عقولِهم من العلمِ والبصيرةِ بُغيتَها، ونصَّبَت عليهم شياطين في هيئة شُيوخٍ يُفتونَهم ليس بجهلٍ فحسب؛ وإنما بتضليلٍ مُتعمَّد .. حُدثاءُ الأسنان .. لا يُعرَفون بعلمٍ ولا سابقةٍ في الإسلام.
فأفسَدوا على المظلومين مطالِبَهم العادِلة في العيش الكريم .. ووأدوا تحرُّر المظلومين ممن ضامَهم .. وفتَحوا البابَ لتقسيمِ بلاد المُسلمين وشرذَمة شعوبهم.
يستحلُّون الدمَ الحرامَ بأبشَع قِتلة .. ويسلُبون المالَ بأدنَى حِيلة .. ويُبيحُون انتِهاكَ العِرض بأوهَى سبب. في أحوالٍ تجلَّى معها استِحقاقُهم وصفَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «هم شرُّ الخليقة».
كما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي ذرٍّ – رضي الله عنه -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن بعدي من أمَّتي قومٌ يقرؤون القرآن لا يُجاوِزُ تراقِيَهم، يخرُجون من الدين كما يخرُجُ السهمُ من الرمِيَّة ثم لا يعودُون فيه، هم شرُّ الخليقة»، وفي صحيح "ابن ماجه" قولُ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الخوارِجُ كلابُ النار».
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من خرجَ من الطاعة، وفارقَ الجماعة، فمات ماتَ ميتةً جاهليةً، ومن قاتلَ تحت رايةٍ عُمِّيََّة، يغضبُ لعُصبةٍ أو يدعُو لعُصبةٍ، أو ينصُرُ عُصبةً، فقُتِل فقِتلةٌ جاهليَّةٌ، ومن خرجَ عن أمَّتي يضرِبُ برَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مؤمنِها، ولا يفِي لذي عهدٍ عهدَه فليس منِّي ولستُ منه».
وفي "الصحيحين" عن النبي – صلى الله عليه وسلم – «أنهم يقتُلُون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتُلنَّهم قتلَ عاد».
في أحاديث كثيرة، وأوصافٍ جليَّة أخذَت جماعاتٌ وعِصاباتٌ في مواطِن الفتن بحظٍّ وافِرٍ منها، أذاقُوا المُسلمين والمُجاهِدين السوء، وانخدَعَ بهم شبابٌ من بلاد المُسلمين، لحِقُوا بهم فمسَخُوا أفهامَهم.
وقد نجحُوا في إقناعِ أعدادٍ غير قليلةٍ بأن بلادَهم التي قدِموا منها دارُ حربٍ، وأن أهلَهم أعداءٌ مُحارِبُون، وأن أمهاتِهم وأخواتِهم وقريباتِهم حقُّهنَّ السَّبيُ .. في أخبارٍ لم تعُد تخفَى.
وروَّجُوا بأنه لم تعُد في الدنيا بلادُ إسلامٍ إلا الأرضَ التي استباحَتها عِصابةٌ باسمِ الخلافة، وما ثمَّ مُسلِمون إلا من بايَعوا رئيسَ تلك العِصابة، في أحوالٍ تُوجِبُ على العُلماء وأصحاب الرأي تسميةَ الأشياء بأسمائِها، وتجلِيَة ألاعِيب العدوِّ وصِناعة المُخابرات المُعادِية، ليُعرَف العدوُّ فيُتَّقَى.
أولئك قومٌ لا غرضَ لأسلحتِهم إلا صُدورَ المُسلمين، ولا هدفَ لمُخطَّطاتهم إلا بلادَ المُسلمين.
عباد الله، أيها المسلمون: إن كِيانًا يُريدُ أن يقوم على خَفر العهود، واستِحلال الدماء المعصومة، والغدر بإخوانهم، وحِماية الظالِم الباغِي لهو كِيانٌ مهتُوكُ السِّتر، مفضُوحُ الهدف، ولو تسمَّى بأجلِّ الأسماء فإن الله لا يُصلِحُ عملَ المُفسِدين.
فكيف وقد عُدِمَت فيه أساساتُ الحُكم الإسلاميِّ الراشِد، وقد طالَ بلادَنا شررٌ من تلك الشُّرور، آخرُها: ما حدثَ في جنوبِ المملكة؛ من حملِ غُلاةٍ للسلاح، والخُروجِ على جماعةِ المُسلمين، وقتلِ الأنفُس المعصومَةِ في نهار رمضان المُبارَك.
خسِروا الدينَ والدنيا .. وباعُوا أوطانَهم .. وأحدَثُوا حدثًا عظيمًا في شهرٍ كريمٍ .. وفجَروا في بلادٍ أهلُها صائِمون قائِمون .. وأزهقُوا أنفُسًا صائمةً حارِسةً للمُسلمين .. نعوذُ بالله من سُوء الخاتِمة وشُؤم المصير.
أيها المسلمون: وبعد كل هذا الوضوح .. فإننا نُنادِي من لحِقَ بالغُلاة أن استعتِب ما دامَت روحُك في جسدِك، ولم يُختَم بعدُ عملُك، وإياك أن يُريقَ سلاحُك دمَ مُسلمٍ أو تتخوَّضَ في فتنٍ أنت منها في عافيةٍ.
فإن العالَم يتفهَّمُ أن تنتفِضَ عشائرُ على من سفَكَ دماءَها، واعتقلَ بنِيها، واعتدَى على بعضِ نسائِها، وهجَّر المسلمين السنَّةَ من ديارِهم، ولم يترُك حاكمُهم لهم في القوس منزَع .. فابتلاهُم في دينِهم وأعراضهم، ودمائِهم وأموالهم.
وأما أنت ففي عُنقِك بيعةٌ لإمامٍ مُلزمٌ بطاعتِه، نهاكَ عن الخُروج، وفي وجودِك مفسدةٌ تفوقُ المصلحةَ التي نشدتَ، وفي تلك الديارِ رِجالٌ لا يُزايَدُ عليهم، وقد جرَّبَت بلادُنا وبلادُ المُسلمين مرارةَ النَّفير لمواطِن الصِّراع، عادَ في كثيرٍ من أحوالِه ببدعٍ وتكفيرٍ .. واستِحلال دماءٍ وتفجير.
ومع هذا؛ فإن على طلبَة العلم ومنابِر الإعلام، أن يكونوا على مُستوى الحدَث في التحذير والبيان .. فهذا دينٌ لا مُجاملةَ فيه .. وأمنٌ لا مُساومَة عليه.
وعلى وسائل الإعلام والكُتَّاب ألا يَزيدُوا الشَّرَر، ويُقيمُوا المُبرِّرَ للغُلاة، وذلك بتجاوُزاتِهم في دينِ الله، أو إيذاءِ المُصلِحين، واتهام شريعة الله واتهام مناهِج تعليمِنا بزراعة ذلك الفِكر؛ فإن فِكرةَ الغلُوِّ والخروجِ خصوصًا هي أولُ بدعةٍ في الإسلام؛ بل ظهرَت بوادِرُها في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -.
كما روى مسلمٌ عن جابرٍ – رضي الله عنه – من حديث ذِي الخُويصِرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال عنه: «فإن له أصحابًا يحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم، يمرُقُون من الدين كما يمرُقُ السهمُ من الرمِيَّة».
فالغُلُوُّ والخروجُ لوثةٌ قديمةٌ، وعلَّةٌ مُزمِنةٌ في التاريخ القديم قبل وضع مناهِج التعليم، وقبل تأسيسِ بلادِنا. بل إن أكثرَ حمَلَته نشأوا ودرَسُوا في بلادٍ تحكمُها العلمانية، وتتحكَّمُ في مناهِج تعليمِها.
فلتنتهِي المُزايَدات والاتهامات .. وعيبٌ على فردٍ أن يستغِلَّ مُصابَ بلدِه لتمريرِ أجندتِه وشهواتِه. فكثيرٌ من طرح أولئك يصُبُّ الزَّيتَ على النار، ويُفسِدُ ولا يُصلِح.
كما يُنكَرُ على بعض طلبَة العلم الجُرأةُ على إصدار الفتاوى والآراء في شأنِ الأحداث الجارِية حولَنا؛ كإيجاب اللحاق بمن هناك، ودعم طائفةٍ مُقاتلةٍ دون طائفةٍ أُخرى، وتغليبِ فصيلٍ على فصيلٍ، حتى زادَ التشرذُم، واتَّسَع الشِّقاق، وخطفَت جهةٌ غيرُ صالحةٍ زِمامَ الأمر. وهذا الشأنُ من قضايا الأمة الكُبرى التي لا ينفرِدُ بها أفراد. وقد رأينا ورأيتُم نتاجَ ذلك مما يضُرُّ ولا يسُرُّ.
ولفتةٌ أخرى حول ما يتداولُ الناسُ في وسائل الاتصال، من مواد مرئيةٍ أو مسموعةٍ أو مقروءةٍ لغُلاةٍ وخوارِج، وأكثرُ قصدِهم من نشرِها التسلِيَةُ والفُضول، في حين أنها قد تقعُ في يدِ من ينجذِبُ لها، ويُعجَبُ ويتأثَّر .. فيكون المُتسلِّي سببًا في نشر شرٍّ من حيث لا يعلَم، وقد قال الله – عز وجل -: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
عباد الله: يا أيها المسلمون عامَّة! وخصوصًا من لهم جِوارٌ مع البلاد المُضطربة: كونوا على قدرٍ من الوعي والمسؤولية .. فإن الحالة التي تمُرُّ بها المنطقةُ العربية لا تتحمَّلُ تصدُّعًا في الصفِّ الداخليِّ .. في لحظةٍ تمُرُّ بها المنطقةُ بإرهاصاتٍ خطيرةٍ يُرادُ منها أن تتغيَّر حُدودُها وسياستُها، وتحالُفاتها، في توجيهٍ لمصيرٍ مُظلِم. فكُفُّوا عن التهييج والتأليب، واطَّرِحوا الإثارة، ولا تكُونوا كم يُطِبُّ زُكامًا فيُحدِثُ جُذامًا!
ونداءٌ لكل من ولاَّه الله أمرًا في بلادِ المُسلمين: إن الشياطين التي تبغِي خطفَ شُعوبِكم كُثُر .. وبالعدل تقطَعون الطريقَ على كل مُصطاد .. وبتأدِيةِ الحقوق يخنَسُ كلُّ مُتربِّصٍ .. وبإصلاحِ الفاسِد من الأحوال ينتهِي عُذرُ كلُّ ناعِقٍ.
ومن أخبار الخليفة العادِل عُمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: أنه كتبَ إلى والِيه على خُراسان يقول: "أما بعد .. فقد بلغَني كتابُك، تذكُرُ أن أهلَ خُراسان قد ساءَت رعِيَّتُهم، وأنه لا يُصلِحُهم إلا السيفُ والسوطُ. فقد كذبتَ؛ بل يُصلِحُهم العدلُ والحقُّ، فابسُط ذلك فيهم .. والسلام".
أيها المؤمنون: ومن منبَر الكعبة المُشرَّفة .. وفي جُمعةٍ من رمضان دعواتٌ وشُكرٌ لرجال أمنِنا الذين يُرابِطون في الثُّغور، وفي داخل البلاد، خصوصًا في هذا القَيظ وهم صائِمون .. جزاكم الله عن الصائمين والقائمين والمُعتمِرين خيرًا، وأثابَكم عن المُتهجِّدين والتالِين كتابَ الله والآمنِين خيرَ الجزاء.
فعملُكم – إن شاء الله – مأجور، وسعيُكم مشكور، رحِمَ الله شُهداءَكم، وأخلَفَ عليهم في أهلِهم خيرًا، وجبَرَ المُصابِين منكم، وثبَّتَكم على الحقِّ والخير.
ولعلَّ الله أن يُلحِقَكم ثوابَ كل من تعبَّد في هذا البلد، وكان الأمنُ سببًا لقيام هذه العبادة؛ من صلوات الجماعة في المساجد، والأسفار إلى الحرمَين الشريفين، وأداء مناسِك العُمرة والحجِّ.
وهذه الأيام تغُجُّ آلافُ المساجِد .. ومئاتُ الجمعيات والمؤسسات الخيرية، فضلاً عن ملايين المُحسنين والمُتصدِّقين، ومظهرُ الصيام والإيمان والتوحيد في كل رُبوعِنا.
وها هو المسجدُ الحرامُ يُضِيءُ بالطائِفين الآمِنين، والمُصلِّين المُتهجِّدين، في مشهَدٍ مَهيبٍ لا يتهيَّأُ في مكانٍ آخر من الأرض، مما لا يُمكِنُ أن يتمَّ ويكون لو لم تُؤمَن السُّبُل ويأمَن الناس .. وبالله ثم بكم كفاية.
وأخيرًا .. في خِضَمِّ الصراعات العربية الداخليَّة .. يأبَى الصهايِنةُ المُحتلُّون إلا تذكيرَ الناس بأنهم عرَّابُو الظلم، ورُعاة القتل والقهر. في اعتِداءاتٍ مُتجدِّدةٍ على فلسطين عامَّةً وعلى غزَّة خاصَّة .. أطنانٌ من المُتفجِّرات على رُؤوسِ الأطفال والنساء والمدنيين. في قتلٍ عامٍّ وإبادةٍ جماعيَّةٍ.
ولئن بقِيَ الصهايِنةُ وهم آمِنون من عواقِبِ ظُلمِهم .. غيرَ مُبالِين باستِفزازَاتهم؛ فإن اليوم ليس كالأمس، وإن الغيظَ الذي يسكُبُونَه باعتِداءاتِهم المُتكرِّرة في صُدور الفلسطينيين والعرب سيُؤتِي ثِمارَه ولا شك، خصوصًا وأن الحريقَ الذي في الجِوارِ لم يعُد بعيدًا.
وإن تخاذُل المُجتمع الدوليِّ عن كفِّ اعتِداء الكِيان المُحتلِّ، بل وحمايتِه وتبرير جرائِمِه كفيلٌ بألا يجعلَ العالَمَ في مأمَنٍ.
وإن الغيظَ الذي يُنمُّونَه في نفوسِ الأمة سيُشعِلُ نارًا لن تنطفِئ، ولا غالِبَ في هذه الأزمات إلا الله، فهو المُستعان، وإليه المُلتجَأ، وبه المُعتصَم، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
ففِرُّوا إلى الله – عباد الله -، واعتصِموا بالله هو مولاكم، فنِعم المولَى ونِعم النصير، واصبِروا وصابِروا ورابِوا واتقوا الله لعلك تُفلِحون.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين والخُلفاء المرضيين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ عل نهجِهم واتبعَ سُنَّتَهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادَنا بسوءٍ أو فُرقةٍ فرُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحةَ الناصِحة، اللهم وفِّقه ونابَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيلَ الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والرِّبا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، واحفَظ دينَهم، وأعراضَهم، وديارَهم، وأموالَهم.
اللهم كُن للمظلومين والمُضطَهدين والمنكوبين، اللهم أنجِ المُستضعَفين، اللهم انصُر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُر المُرابِطين في أكنافِ بيت المقدِس، اللهم اجمعهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزُونَك.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ والمُعافاةَ الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم ما سألناك في هذا الشهر الكريم من مسألةٍ صالِحةٍ فاجعل أوفرَ الحظِّ والنصيبِ لنا ولوالدَينا ووالِدِيهم وذريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتنا، وأحبابنا والمُسلمين.
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم وفِّقنا للصالِحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودُعاءَنا وصالحَ أعمالنا، أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.