عناصر الخطبة
الحمد لله، بعثَ أنبياءَه ورُسلَه تِباعًا، وجعلَ أقربَ الناس إليه أكثرَهم طاعةً لرُسُله وأشدَّهم اتِّباعًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بعثَ لكل أمةٍ هاديًا مُطاعًا، ونورًا جالِيًا لكل عتَمَةٍ وشُعاعًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفِيُّه وخليلُه، أرسلَه ربُّه شاهِدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى – أيها الناس -؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
إن الدنيا تفنَى .. وإن الآخرةَ تبقَى .. فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية. الدنيا مُنقطِعة .. والمصيرُ إلى الله.
أيها المسلمون:
إن الله تعالى بعثَ رُسُلَه ليدُلُّوا الناسَ عليه، ويُبصِّروا الخلقَ بالطريقِ المُوصِلَة إليه، وكلما عفَت معالِمُ رسالةٍ سابِقة، وخفَتَ وهَجُ النبُوَّة في نفوسِ أتباعِها؛ بعثَ الله رسولاً يُجدِّدُ من معالِمِ الدين ما ندرَس، ويُحيِي في الناسِ ما عفَا منها أو التَبَس.
قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «كانت بنُو إسرائيل تسُوسُهم الأنبياء، كلما هلَكَ نبيٌّ خلَفَه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدِي» (متفق عليه).
فلما ختَمَ الله النبُوَّة بسيِّد البشر مُحمدٍ – صلى الله عليه وسلم – جعلَه خيرَ الرُّسُل، وأمَّتَه خيرَ الأُمَم. ومن كرامَة الله -تعالى- لهذه الأمة أن شرَّفَها لتقوم بوظيفَة الرُّسُل في الدعوة إلى الله والدِّلالة عليه، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: 110].
وقال -تعالى- آمرًا نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – أن يُخبِرَ الناس: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].
والدعوةُ إلى الله تكليفٌ دائمٌ لهذه الأمة، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[آل عمران: 104].
فواجبٌ على الأمة أن يُبلِّغُوا ما أُنزِلَ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ويُنذِرُوا كما أنذَر، قال الله – عز وجل -: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، وقال – عزَّ من قائل -: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وقال – سبحانه -: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 67]، وقال – عز وجل -: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص: 87].
وقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغُوا عنِّي ولو آية».
فالأمرُ يقتَضِي وجوبَ الدعوة على كل واحدٍ حسبَ طاقته، وإن كانت فرضَ كفايةٍ .. فأيُّ كِفايةٍ والأمةُ غارِقةٌ في كثيرٍ من أحوالِها في الجهل وضعفِ الاتِّباع، والانحِرافات والبِدَع، مع كثرة المُحتاجِين للدعوة والتعليم من المُقبِلين، فضلاً عن الأُمم الضالَّة والكافِرة.
ألا وإن مُستهَلَّ كل دعوةٍ ومُبتدَأَ كل رسالةٍ: هي الدعوةُ إلى توحيدِ الله العظيم، وإفرادُه بالألوهيَّة والربُوبيَّة. وهذا أساسُ دعوة الرُّسُل جميعًا: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وما تضمَّنَته تفاصيلُ تلك الرسالات يعودُ إلى هذا الأصلِ العظيم.
أيها المسلمون:
كفَى للمُؤمن شرَفًا أن يدعُو إلى ما دعَا الله إليه: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس: 25]، وهو – سبحانه – من قال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221].
عباد الله:
إنه لا تُوجدُ وظيفةٌ في الإسلام أشرفَ قدْرًا، وأسمَى منزلة، وأرحبَ أُفُقًَا، وأثقَلَ تبِعَة، وأوثقَ عهدًا، وأعظمَ عند الله أجرًا من وظيفة عالِم الدين؛ لأنه وارِثٌ لمقام النبُوَّة، وآخِذٌ بأهمِّ تكاليفِها، وهي الدعوةُ إلى الله، وتوجيهُ خلقِه إليه، وتزكيتُهم وتعليمُهم، وترويضُهم على الحق حتى يفهَمُوه ويقبَلُوه، ثم يعمَلُوا به ويعمَلُوا له.
فلا يُوجَد قولٌ أحسنَ من قولِه، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
ولا يُوجَد عملٌ أحسنَ من عملِه؛ قال ابن القيِّم – رحمه الله -: "وتبليغُ سُنَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إلى الأمة أفضلُ من تبليغِ السِّهام إلى نُحور العدُوِّ؛ لأن تبليغَ السِّهام يفعلُه كثيرٌ من الناس، أما تبليغُ السُّنن فلا يقومُ به إلا ورَثَةُ الأنبياء".
عن أبي الدَّرداء – رضي الله عنه – قال: "ما تصدَّق عبدٌ بصدقةٍ أفضلَ من موعظةٍ يعِظُ بها إخوانًا له مُؤمنين، فيتفرَّقُون وقد نفعَهم الله بها".
وفي "الصحيحين" – واللفظُ للبخاري -، من حديث سهلِ بن سعدٍ، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «فوالله لأن يُهدَى بك رجُلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمر النَّعَم».
الدعوةُ جالِبةٌ لمحبَّة الله، وعند الطبراني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أحبُّ الناسِ إلى الله -تعالى- أنفعُهم للناس».
ولا شكَّ أن أعظمَ النفعِ للناس هو نفعُهم في تصحيحِ مُعتقَدهم ودينِهم، وزيادةِ الإيمان لديهم، وتزكِيةُ أخلاقِهم وسُلُوكِهم، ومُحاربَة الباطل والشهوات التي تعترِضُهم.
يكفِي الدُّعاةَ سُمُوًّا وفوزًا أنهم المُفلِحون والسُّعداء في الدنيا والآخرة؛ قال الحقُّ – سبحانه -: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[آل عمران: 104].
وهم المرحُومون: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].
روى مُسلمٌ وأصحبُ السُّنن: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من دعَا إلى هُدى كان له من الأجر مثلُ أُجُور من تبِعَه لا ينقُصُ ذلك من أُجورِهم شيئًا».
الدعوةُ إلى الله تُثمِرُ لصاحبِها الثباتَ على الهُدى، والبركةَ في الأهل والذرِّيَّة، وتدفعُ المُنكَرات وتقطعُها، وتدحَضُ شُبَه المُضلِّين وتدفَعُها، ويصلُحُ بها حالُ المُجتمع، وتنشرُ الإسلامَ وتُعِزُّه وترفعُ شأنَه.
وكفَى بها شرَفًا أنها سبيلُ قيام الدين الذي ارتضَاه للناسِ ربُّ العالمين.
الدعوةُ إلى الله زيادةٌ في الحسنات، ورِفعةٌ في الدرجات، وإذا انقطَعَت أُجورُ العباد بموتِهم، فأجرُ الداعِية مُستمرٌّ ما استمرَّ نفعُ دعوتِه.
عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «من دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعِلِه»؛ رواه مسلم.
إن على الدُّعاة والمُصلِحين أن يقُوموا بما استُحفِظُوا عليه من نشرِ الدين والفضيلَة، ودَحر الشرِّ والرَّذِيلة، وإيقافِ المدِّ الإفساديِّ المُعلَن الذي يجتاحُ العالَمَ بأسرِه، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾[آل عمران: 187].
وما ضعُفَت الدعوةُ في بلدٍ أو غابَت إلا نقَصَت الشريعةُ، واختلَّت العقيدة، واضمَحَلَّت العباداتُ والسُّنن، واختلَّ الأمنُ ونشَطَ الفِكرُ الضالُّ.
عباد الله .. أيها المسلمون:
إن الأُمَم قبلَنا فرَّطَت فعُوقِبَت، وقال الله – عز وجل -: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32].
إن هذه الأمة مُصطفاة، ومسؤولةٌ عن هذا الميراث العظيم الذي آلَ إليها، وإن تبِعَاتها أمام الله جسِيمة بإزاءِ هذا الميراث، وأمام الكتابِ الذي ختَمَ الله به الوحيَ، ووكَلَ لهذه الأمة درسَه ونشرَه، وكلَّفَها أن تحيَا به وتحيَا له.
إن أمة الإسلام ورِثَت هذا الكتاب وهذه الرسالة، وواجِبُها ولُبُّ وجودِها: أن تُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، وأن تقُودَ العالَمَ إلى الهُدى والتُّقَى والعفاف والغِنَى.
إن الناسَ قد تحجُبُهم عن الحق ظُلُماتٌ شتَّى، قد يعيشُون ويمُوتون فيها. ونحن المُسلمين مُكلَّفُون برفع المِصباحِ حتى يهتدِيَ الحَيَارَى.
وإذا كانت الجبالُ للأرض رواسِيَ تحفظُها أن تَميد؛ فإن العُلماء العامِلين هم الرواسِي للمُجتمعات .. هم الدواءُ لكل ما يفشُو من عِلَل .. وهم الأملُ الباقِي لبقاء الخير في الأرض، وإن ترادَفَت النُّوَبُ واكفَهَرَّت الآفاق، قال – سبحانه -: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 181].
ولحملِ الحقِّ أعباءُ مُرهِقة، فما صادَمَ أحدٌ شهوات الناس وأهواءَهم إلا عادَوه، وكذلك كان شأنُ الأنبياء قبلَهم. فلا بُدَّ من الصبر على تثبيطِ الخاذِلين، وكيدِ المُعوِّقين والمُخالِفين، والسعيِ بالمرحَمة للخلقِ أجمعين.
ولقد كان نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – أحرصَ الناس على هدايةِ الخلقِ، لما أُنزِل إليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2)﴾ [المدثر: 1، 2]، قام – صلى الله عليه وسلم – يدعُو إلى الله وما قعَد.
نشهَدُ أنه بلَّغ الرسالة .. وأدَّى الأمانة .. ونصحَ الأمة .. وجاهدَ في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين .. بذلَ رُوحَه وراحتَه لدعوة الخلق وتعليمِهم وهدايتِهم حتى حطَمَه الناس، كان يستغلُّ جميعَ المواقِف لوعظِ الناس وتذكيرهم بالله في كل مكانٍ وحالٍ وزمانٍ، حتى قال الله له مُعزِّيًا ومُسلِّيًا: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8]، وقال له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].
لما أسلمَ الجنُّ ولَّوا إلى قومِهم مُنذِرين، ولما أسلمَ الصدِّيقُ – رضي الله عنه – لم يلبَث حتى أسلَمَ على يديه نِصفُ العشرة المُبشَّرين بالجنَّة، لا يعمَلُون في الإسلام من عملٍ إلا كان لأبي بكرٍ مثلُ أُجورِهم.
ولما أسلمَ الطُّفيلُ لم يلبَث أن قدِمَ على رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – بثمانين أو تسعين أهلِ بيتٍ من "دَوسٍ" مُسلمين.
وخاضَ سلَفُنا الصالحُ البِحار، وسلَكُوا القِفار، ووصَلُوا عملَ الليل بعملِ النهار في سبيلِ الدعوة إلى الله وتبليغِ رسالتِه. فكيف يكسَلُ بعضُ ورَثَة أولئك الأخيار عن دعوةِ من حولَهم من قرابَتهم وجِيرانِهم وخَدَمهم، فضلاً عن غيرِهم، وقد تيسَّرَت سُبُل الدعوة وتعدَّدَت طُرُقُها.
أما والله لو علِمَ العبادُ ما في الدعوة إلى الله من الفضلِ، وما ينالُهم بسببِها من الأجر لَمَا قعَدُوا عن ذلك.
إن عملَ الخير والدعوة إلى الخير سِماتُ الأمة الظاهِرة، وملَكَاتُها الباطِنة، ووظيفتُها الدائِمة، ورسالتُها ليسَت مُجرَّد دعوَى؛ بل هي أُنموذجٌ وقُدوةٌ، وخيرٌ مُتكامِلٌ يعيشُه الداعِي قبلَ دعوتِه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ(78)﴾ [الحج: 77، 78].
إن على كل عالِمٍ أن يُدرِكَ أنه مُستحفَظٌ على كتاب الله، مُؤتمَنٌ على سُنَّة رسولِه في العملِ بها، وتبليغِها كما هي، وحارِسٌ لهما أن يُحرِّفَهما الغالُون، أو يزيغَ بهما عن حقيقتِهما المُبطِلون، أو يعبَثَ بهما المُبتدِعة.
على كل مُسلمٍ أن يكون حذِرًا أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَلِه، وأن يكون سريعَ الاستِجابة للحق إذا دعَا داعِيه، وإلى نجدَته إذا رِيعَ سِربُه أو طُرِقَ بالشرِّ حِماه.
واجبٌ على كل مسلمٍ أن ينشَطَ إلى الهداية كلما نشِطَ الضلال، وأن يُسارِع إلى نُصرة الحق كلما رأى الباطلَ يُصارِعُه، وأن يُحارِبَ البِدعةَ والشرَّ والفساد قبل أن تمُدَّ مدَّها وتبلُغَ أشُدَّها، وقبل أن يعتادَها الناسُ فترسَخَ جُذورُها في النفوس ويعسُر اقتِلاعُها.
وإن الله ليُبارِكُ للمُخلِصِين جُهدَهم، ولو تعثَّرُوا في بعض الأمور، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، ونفَعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله -تعالى- لي ولكم.
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه ومن والاه.
أما بعد:
فالدعوةُ إلى الله غيرُ محصورةٍ بوقتٍ ولا مكان. فهذا نوحٌ – عليه السلام – يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [نوح: 5]، ويسلُكُ طُرقًا مُنوَّعة: ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 9].
وهذا يوسُفُ – عليه السلام – يدعُو في السِّجن: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39].
فمن أعجَزَته طريقةٌ وجدَ أخرى، ومن أُغلِقَ عليه بابٌ فُتِحَت له أبواب، وهو النُّصحُ المُيسَّرُ للجميع.
يجبُ أن يثبُتَ الداعِي على أشُدِّه في الدعوة والبلاغ والأمر والنهي، حسب الضوابِط الشرعية، وحسبَ الاستِطاعة، وأن تُوطَّن النفوسُ على تحمُّل الأذى والابتِلاءات التي تترتَّبُ على الدعوة والتبليغ، وأن نعلَمَ أن في قلوبِ الناسِ خيرًا كثيرًا.
إن من المُسلمين من فتَحَ الله عليه في العلمِ والفقهِ، ومعرفةِ الأحكام والتعليم، ومنهم من فُتِحَ عليه في الوعظِ وترقيقِ القلوبِ، ومنهم من فُتِحَ عليه في النُّصح والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ومنهم من انشغَلَ بنشرِ الكُتُب، وآخرون بمُدافَعَة الباطل. وكلٌّ على ثغرٍ من الإسلام.
ولا يجوزُ أن يكون هذا التنوُّع المُفيدُ سببًا للفُرقة والنِّزاع؛ بل كلٌّ مُسخَّرٌ لما خُلِقَ له، ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: 60]، ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
ومن أساءَ من مُحبِّي الخيرِ وناشِدي الإصلاح ممن سلِمَت عقيدتُهم، وحسُنَ قصدُهم، وصلُحَت سيرتُهم، أفرادًا كانوا أو جماعات، في شأنٍ من شُؤون الدعوة؛ فالواجبُ على إخوانِهم تبصيرُهم بالحُسنى، ونُصحُهم والصبرُ على تعليمِهم مهما جفَوا، وتعاهُدُهم بالنصيحةِ كل وقتٍ. فهم أحقُّ بالصبر عليهم من صبرِ الأنبياء على أقوامِهم المُشرِكين.
فإن الاختلافَ من أكبر العثَرَات في سبيل الدعوة، ورحِمَ الله من أعانَ الدينَ ولو بشطرِ كلمةٍ، وإنما الهلاكُ في ترك ما يقدِرُ عليه العبدُ من الدعوة إلى هذا الدين.
أيها المسلمون:
ومن أعظم ما يُسيءُ إلى الإسلام ويُبطِئُ من دعوتِه، ويحُدُّ من انتِشارِه: تصرُّفاتُ بعضِ المُسلمين، وخاصَّةً من يظُنُّ نفسَه من المُحافِظين عليه، وفي التنزيل العزيز: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: 5].
وقد رأينا في السنواتِ المُتأخِّرة جرائِمَ من أمثالِ هؤلاء، عمِلَت في الإساءَة للإسلام والدعوة إليه ما لم يستطِع أعداؤُه مثلَه. لم تكُن ساحتُه ساحةَ حربٍ، أو ضحاياها مُحارِبُون؛ بل كان مدارِسَ المسلمين وبيوتَهم وأسواقَهم.
وكان آخرُها جريمةُ الهُجوم على مدرَسة أطفالٍ في دولة الباكِستان، راحَ ضحِيَّتَها أكثرُ من مائةٍ وثلاثين قتيلاً، مُعظمُهم من الأطفال.
إنه لا عُذرَ لأولئك القتَلَة عند الله، ولا تبريرَ من أي عقلٍ وعاقلٍ، ولن يقبَلَ صنيعَهم ضميرٌ أو تستَسيغَه مُروءَة، وقد ولَغَ القتَلَةُ في دمٍ حرامٍ، وأزهَقُوا أنفُسًا لم يجرِ قلمُ التكليف على أكثرِهم. ما ذنبُ هؤلاء؟!
وما ذنبُ أطفال سُوريا والعراق وغيرهم ممن يُمطَرون بالقتل صُبحَ مساء، ويُشرَّدُون في جُوعٍ وخوفٍ وزَمهَرير الشِّتاء؟! المُجرِمون سواء، والإسلامُ منهم براء.
إن من أُصول دينِنا والمعلوم منه بالضرورة: عِصمة الدماء وتعظيم خطرِها، ومع ذلك نرَى سفكَه أهونَ ما يكونُ عند كثيرين، يجترِؤُون عليه بآراء مُنحرِفة، وآراء مُزيَّفة.
لقد حفِظَ الإسلامُ دماءَ صِبيان الكُفَّار المُحارِبين؛ فكيف بصِبيان المُسلمين الآمِنين؟!
نعوذُ بالله من الانتِكاسَة في الدين، وسُلُوك سبيلِ الخوارِج الغالِين، ونسألُ الله أن يكفِيَ المُسلمين شُرورَهم، وأن يرُدَّهم على أعقابِهم، وأن يرحَمَ موتَى المُسلمين، ويشفِيَ الجرحَى والمُصابين.
عزاءُ المُسلمين لأُسَر الضحايا: رحِمَ الله الأموات، وأخلَفَ على ذوِي الأطفال، وجعلَهم لهم فرَطًا وشُفعَاء، وفي كفالَة أبيهم إبراهيم – عليه السلام -.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجِه أمهات المؤمنين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم ارضَ عن الأربعة الخُلفاء، الأئمة الحُنفاء: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيِّك أجمعين، وعنَّا معهم يا أرحم الراحِمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ، يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادنا وبلادَنا وأراد الإسلام والمُسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل دائِرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم الطُف بإخواننا في سُوريا، وبُورما، وإفريقيا الوسطى، وفي كل مكانٍ، اللهم ارفع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفَرَج، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، واحفَظ أعراضَهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الهُدى، واكفِهم شِرارَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، اللهم وفِّق وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمن والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم، وأزواجنا وذرِّيَّاتنا إنك أنت السميعُ العليم.
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرنا، وثبِّت أقدامَنا، وانصُرنا على القوم الكافِرين.
اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.