عناصر الخطبة
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه، فإن تقوى الله هي سعادة المرء في الدنيا والآخرة، وصلاح أمره عاجلاً وآجلاً.
معاشر المسلمين: إن مما رُكز في الفطر، ونطقت به الألسن قبل أن تتم العقول، أن الله جل وعلا إنما خلق الناس من أجل أن يعبدوه، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وهذه العبادة المطلوبة ليست هي مجردُ حركات وانقيادٍ للأمر فحسب، بل أعظمُ من ذلك، إن الغاية العظمى من هذه الأعمال هي ما ينتج من ذلك في قلب العبد من الذل بين يدي الله، وحصول العبودية المطلقة من القلب لله جل وعلا، ولا سبيل للقلب أن يصل لهذه المنزلة إلا بأمر مهم هو أساسُ ذلك ولبّه، أتدورن عباد الله ما الأمر المقصود؟! إنه الإخلاص لله جل وعلا في القصد في جميع الأعمال، فمن لم يكن له قصد في عمله لرب العالمين فما ذاق حلاوة العمل، وما وجد لذة العبادة، ومن هذا المنطلق سنتكلم عن هذا الأمر العظيم؛ علنّا أن نجاهد نياتنا ونصحح مقاصدنا فما أعظم تقلب النية، وما أغفل المرء عن ذلك، وما أحرص الشيطان على إفساد عمل ابن آدم من جهة نيته.
عباد الله: فاقد الشيء لا يعطيه، ولا ينفع الكلام إلا من أهل الإخلاص، ولنا من سلفنا الصالح السير الزاكية المعطرة، التي حفظها الله لنا لتكون نبراسًا يحتذى به.
أيها المؤمنون: إن العمل لا يُقبل إلا إذا توفر فيه ركنان، الأول: الإخلاص والثاني المتابعة، وبمعنى آخر توحيدُ القصدِ لله، والخلوُ من البدع والمحدثات في العمل، لنركّز القولَ على الشرط الأول وهو توحيد القصد لله تعالى، إنه الإخلاص الذي عزّ وجوده، وقلّ أهله، خاف الأولياء والمتقون أن يفقدوه، وأقلق ذلك مضاجع العبادِ والمتهجدين، فما زالوا في جهاد مع نياتهم حتى الممات، وكانوا يخشون حبوط عملهم في ذلك، فلا يهنأ لهم بال ولا يَقرُّ لهم قرار، خوفًا من أن يسرقَ الشيطان أعمالهم وهم لا يشعرون ولسان حالهم: من وجد الله فماذا فقد ومن فقد الله فماذا وجد؟ ولسان حالهم ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84]، فطوبى لمن رغب إلى الله وكان قصده إلى من إليه المنتهى، يريد وجه ربه ذي الجلال والإكرام، فرارا إليه ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 42]، فكل عمل لا ينتهي إلى الله فهو باطل:
وعنك إشارتي وإليك قصدي *** ومنك مسرتي ولك انقيادي وأنت ذخيرتي وبك انتصاري *** وفيك تألهي وبك اعتمادي
معاشر المسلمين: إن بالقلب شعثًا لا يلُمه إلا الإقبالُ على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حَزن لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفته، وصدقُ معاملته… فلله ما أحلى قيامَ قلوبٍ قالت: لا أبتغي غير وجه الله، ولا أطلب إلا ما يقرب إلى رضاه.
أيها المؤمنون: إن النية تتقلب على صاحبها لذا كان لزامًا على العبد أن يتعاهدها.
قيل لسهل رحمه الله: ما أشد شيء على النفس قال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين رحمه الله: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر.
وقال نعيم بن حماد رحمه الله: ضرب السياط أهون عليّ من النية الصالحة.
وقال ابن عيينة رحمه الله: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أوف به لك، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد عملت.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تنقلب عليَّ.
وقال سفيان أيضًا: بلغني أن العبد يعمل العمل سرًّا، فما يزال به الشيطان حتى يغلبه فيُكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
وعن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العمل.
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما زلت أعالج إخلاص العمل لله تعالى منذ ثلاثين سنة.
وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
وقال السري السقطي رحمه الله: تصفية العمل من الآفات أشد من العمل.
أيها المؤمنون: من هذا الباب حرص سلفنا الصالح على إخفاء أعمالهم فلا تكاد تعرف عن أحدهم عبادةً، ولكنهم في السر من فرسان العبادة.
قال الحسن البصري رحمه الله: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج أحدهم أحسن ما عنده.
قال سفيان الثوري رحمه الله: إبراهيم بن أدهم رحمه الله لو كان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً، له سرائر، وما رأيته يظهر تسبيحًا ولا غيَره، وكان رحمه الله يقول أعربنا في القول وأخطأنا في العمل.
وهذا التابعي الجليل أيوب السختياني يحدث عنه حماد بن زيد رحمهما الله يقول: كان أيوب يحدثنا ربما يحدث بالحديث فيرق فيلتفت ويمتخط، ويقول: ما أشد الزكام!! يظهر أنه مزكوم لإخفاء بكائه.
وقال محمد بن واسع رحمه الله: أدركت رجالاً كان الرجل منهم يكون رأسه مع امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحته من الدموع لا تشعر به زوجته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجنبه.
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
وقال ابن أبي عدي رحمه الله: صام داود بن أبي هند رحمه الله أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان يعمل خرازًا، يحمل غداءه من عندِهم فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيًّا فيفطر معهم.
ألا فلنتساءل لم أخفوا أعمالهم؟ إن الجواب سهل بسيط لأنهم عرفوا عظمة الله فحجبت كل كبير من أمور الدنيا، فأرادوا وجه الله ولم يلتفتوا إلى غيره، اللهم إنا نسألك حسن القصد في القول والعمل، ونعوذ بك من الرياء صغيره وكبيره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد: فأيها المؤمنون: ما أحسنَ سماع سير سلفنا الصالح، وأحسنُ منه الاقتداءُ بهم، والسيرُ على نهجهم، بعد معرفة آثارهم.
معاشر المسلمين: إن المرائي بعمله، من أضعف الناس إيمانًا، وأقلهم علمًا بالله جل وعلا، فالله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يرضى من العمل إلا الخالصَ من كل شائبة.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وخرجه ابن ماجه ولفظه: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".
وأخرج الإمام أحمد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا، فإن جِدةَ عمله قليلِه وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".
وأخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشركَ في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وأخرج البزار في مسنده من حديث الضحاك بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكه، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُخلص له، ولا تقولوا: هذا لله والرحم فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء".
وأخرج النسائي في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له" فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغى به وجهه".
معاشر المؤمنين: إن كل عمل يحتاج إلى نيةٍ خالصة، خصوصًا تلك الأعمال التي انقلبت إلى عادات عند كثير من الناس، كالسلام وزيارة الأقارب، والإخوةِ، وشهودِ الجنائز وعزاء أهلها، ونحو ذلك.
قال زيد الشامي: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب، وعنه أنه قال: انوِ في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة.
وعن داود الطائي قال: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك بها خيرًا وإن لم تنصب.
وعن مطرف بن عبد الله قال: صلاح القلب بصلاح العمل وصلاح العمل بصلاح النية، وعن بعض السلف قال: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسن نيته حتى باللقمة، وعن ابن المبارك قال: رُبَّ عملٍ صغير تعظّمه النية، ورُبّ عملٍ كبير تصغّره النية. وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة. وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.. خرج ذلك كلَّه ابنُ أبي الدنيا في كتابه الإخلاص والنية.
معاشر المؤمنين: قال سلفنا الصالح: من أمن الرياء وقع فيه، ومن خافه نجا.
ومن الأمور المعينة على الإخلاص تذكر عظمة الله وأنه مطلع عليك في كل أعمالك، وتذكر ضعف ابن آدم، وعجزه.
ومنها كذلك تذكر الأجر المترتب على العمل، وأن الرياء يحبطه، ومنها كذلك تعاهد النية باستمرار واستحضارها في القلب عند كل عمل، ومنها إخفاء العمل الصالح ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، قال محمد بن أسلم: لما عُوتب على عدم التنفل في المسجد؛ لو أعلم مكانًا لا يراني فيه ملكاي لصليت فيه.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونعوذ بك أن نشرك بك ونحن لا نعلم.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا…..