عناصر الخطبة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، قسم عباده قسمين: فمنهم شاكر ومنهم كفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم إلى يوم الحشر والمصير وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، ومحاسبة النفس قبل وضع الميزان، ونصب الصراط وتطاير الصحف واشتداد الكرب, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
واعلموا أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، له قيمة كبرى في تعليق أنظار بني آدم وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض، فلا تستبد بهم شهوات الحياة، ولا يسيطر عليهم الهمّ والقلق، وعندئذ يعملون لوجه الله، وانتظار جزاءه في طمأنينة ويقين.
عباد الله: يوم القيامة يوم عظيم يجمع الله فيه الأولين والآخرين والمؤمنين والكافرين، والمطيعين والعاصين، ويجازي كلاً بعمله، قال -سبحانه-: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(10)﴾ [التغابن: 9-10].
يجمع هؤلاء الخلائق ويحاسبهم وقال لمن أنكر ذلك الجمع وذلك الحساب: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى… أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) [القيامة: 36 – 40]، بلى، وهو الخلاق العليم، العزيز الحكيم.
أيها المؤمنون: والإيمان باليوم الآخر أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله، ذلك أن الإيمان باليوم الآخر يقوم على الإيمان والثقة بعدل الله وحكمته، فلا ينتظر العبد من ربه الحكيم العادل أن يسوّي بين الأنبياء وأعدائهم، ولا بين القاتل والمقتول، ولا بين الظالم والمظلوم، ولا بين من صام وقام وعبد ربه، وبين من فجر وعصى، فعدل الله وحكمته تأبى أن يعيش موسى وفرعون ثم يموتان ولا شيء بعد ذلك، كلا؛ فالله الحكيم العادل جعل هناك دارًا للجزاء، ولا يظلم ربك أحدًا.
عباد الله: إن الإيمان بالله واليوم الآخر أعظم أركان الإيمان، ولأهمية هذين الركنين يقرن الله بينهما كثيرًا في القرآن، قال -سبحانه-: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]، وقال -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة: 69].
وقد أقسم الله -جل جلاله- بسيد الجبال الطور، وسيد الكتب القرآن، وبالبيت المعمور في السماء، على وقوع المعاد والجزاء فقال تعالى: ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ(8)﴾ [الطور: 1 – 8].
كما أقسم -عز وجل- على ثبوت الجزاء، ومستحقيه، وجمع بين محل الجزاء وهو القيامة، ومحل الكسب وهو النفس اللوامة فقال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ(4)﴾ [القيامة: 1 – 4]، بل أمر -سبحانه- أصدق خلقه أن يقسم للناس بوقوع المعاد، قال -سبحانه-: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [يونس: 53].
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: “الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ“. [متفق عليه].
أيها المسلمون: والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق الجازم بكل ما أخبر الله ورسوله به ويلحق بذلك ما يكون قبل الموت من علامات الساعة، وأشراطها الصغرى والكبرى، وما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، وما يكون بعده في من البعث والحشر، والحساب والميزان، والحوض والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك مما يجري في عرصات القيامة.
وانتبهوا -عباد الله- إلى أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وأن الإنسان في الدنيا لا يزال في الحبس, فأول الحبوس صُلب الأب، وثانيها بطن الأم، وثالثها المهد، ورابعها الكد على العيال، وخامسها مرض الموت، وسادسها القبر، فإن خرجت منه إلى الجنة نسيت مرارة كل حبس تقدم، وإن خرجت منه إلى النار، فذاك حبس الأبد، وخسارة الأبد، والناس يوم القيامة قسمان: إما خارج من سجن الدنيا إلى الجنة، وإما ذاهب إلى سجن الآخرة إلى الأبد.
وأوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم يُولَد فيخرج من بطن أمه إلى دارهم، ويوم يموت ويدفن مع الموتى فيجاور جيرانًا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدًا لم ير مثله قط، ولذلك قال عيسى بن مريم: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33].
أيها الإخوة: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان، وجعله يمر بأربع دور، وجعل لكل دار أحكامًا، وجعل له في كل دار أجلاً، فخلق الله الإنسان في بطن الأم، وأمهله تسعة أشهر حتى تكمل أعضاؤه وجوارحه، فإذا كملت خرج من بطن الأم إلى بطن الدنيا، وهي دار العمل، وطلب منه تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، فإذا كملت مدته جاءه أجله، وخرج من الدنيا إلى مكان الانتظار وهو القبر، وهو برزخ يعذّب فيه الإنسان أو يُنَعّم حسب عمله، فإذا اكتمل من قدر الله خلقه من أهل الجنة وأهل النار قامت الساعة، وخرج الناس من قبورهم إلى دار القرار؛ حيث ينال المؤمنون كمال النعيم في الجنة، وينال أهل النار كمال العذاب في النار: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ(15)﴾ [الروم: 14، 15].
عباد الله: والعبد المسلم في الدنيا كالأجير، والأجير حال اشتغاله بالعمل لا تُدفع أجرته كاملة إليه؛ لأنه إذا أخذها كاملة لا يجتهد في العمل، فإذا أكمل عمله كان له الحق في المطالبة بكامل أجرته، وهكذا الإنسان يعبد ربه ويمتثل أوامر خالقه في الدنيا، فيسعده الله في الدنيا، ويوفيه كامل أجرته يوم القيامة بعد فراغه من جميع أعماله، وإذا كان محل أخذ الأجرة الكاملة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل.
واعلموا -أيها الإخوة- أن الله -عز وجل- عزيز حكيم، خلق بعض عباده أقوياء والبعض الآخر ضعفاء، ابتلاءً وتمحيصًا، ولأنه رحيم عدل، ومنزه عن الظلم والعبث، فلا بد أن ينصف عباده المظلومين ممن ظلمهم، وإذا لم يحصل هذا في الدنيا فلا بد من دار أخرى، يظهر فيها العدل والإنصاف وهي الآخرة التي يحكم يقتص فيها بنفسه: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 17].
والله -سبحانه- أمر بالطاعات، ورغَّب لفعلها بالثواب، ونهى عن المعاصي وحذَّر من فعلها بالعقاب، وهذا الثواب والعقاب غير حاصل كله في الدنيا، فلا بد من دار أخرى يحصل فيها للعبد المطيع كمال الثواب، ويحصل للعبد المسيء كمال العقاب، وهناك يوفيهم أعمالهم: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21].
وثقوا -أيها الإخوة- أن الإيمان باليوم الآخر يحجز عن الصراع والمنافسة في حطام الدنيا وملذاتها، والخوض في الحرمات والمحرمات بلا تحرج ولا حياء، فالدار الآخرة فيها عطاء، وفيها غَنَاء، وفيها عوض عما يفوت، وفي حديث عن بعض أصحاب النبي مرفوعًا أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: “من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه” [أحمد (2428) وصححه الألباني].
ولا شك -عباد الله- أن الإيمان باليوم الآخر يعطي الإنسان طاقة وقوة، فلا يزحزحه عن الطاعة والبر، أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى، فهو يتعامل مع ربه العدل، ينفّذ عهده وشرطه، وينتظر جزاءه المضمون له، وما أقصر الحياة الدنيا التي تشغل نفوس العباد، وتأكل أوقاتهم، إنها رحلة سريعة، ثم يعود إلى مقره الدائم، وداره الأصلية: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: 45]، وبالفعل فعمر الدنيا بالنسبة للآخرة كأنها ساعة من نهار قضاها الخلق في التعارف ثم رحلوا، وكأن الناس دخلوا ثم خرجوا ولم يفعلوا شيئًا سوى التعارف.
حقًا إنها خسارة فادحة لمن جعلوا همهم هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا وانشغلوا بلقاء الله، فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم، ولم يستعدوا كذلك للإقامة الطويلة في الدار الباقية، فماذا ينتظر هؤلاء من العذاب والتوبيخ؟ ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 20].
عباد الله: إن الإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال، ومن لا يؤمن بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة، أو يكبح فيها نزوة، ومن لا يحسب حساب الوقفة بين يدي الله، ولا يتوقع ثوابًا ولا عقابًا يوم القيامة، فما الذي يمسكه عن إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته؟ ﴿إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)﴾ [النبأ: 27، 28]، بخلاف من يؤمن بلقاء ربه ويتقي الآخرة، فإن ذلك كان داعيًا لهم لفعل الخيرات وترك المنكرات قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ(27)﴾ [الطور: 26، 27].
أيها الناس: إن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق النفس البشرية، وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدى، وجعلها مستعدة للعمى إن طمَست منافذ الإدراك فيها، ومشيئة الله نافذة وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها في حالتي الاهتداء والضلال، فالذين لا يؤمنون بالآخرة نفذت فيهم سنة الله، في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم، فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء، حائرون لا يهتدون إلى صواب، وعاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة: ﴿إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ(5)﴾ [النمل: 4، 5].
وتيقنوا -عباد الله- أن الله يجمع جميع الخلائق يوم القيامة من لدن آدم إلى أن يرث الأرض، لا يغيب منهم أحد، قال الله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ [التغابن: 9]، يحضر هذا الجمع العظيم الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله، ويصفون جميعًا صفوفًا محيطة بالخلق، قال -سبحانه-: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً﴾ [الفرقان: 25]، علمًا أن السموات العظيمة مملوءة بالملائكة، وحَملة العرش ومن حوله، كل هؤلاء يحضرون فصل القضاء بين الناس، فكم يكون عدد الملائكة في هذا الجمع، وهم حافون من حول العرش؟ قال -سبحانه-: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر: 75].
ويأتي الرب -سبحانه- للفصل بين الخلق يوم القيامة، يحمل عرشه -سبحانه- ثمانية من الملائكة الذين لا يعلم عظمتهم وقوتهم إلا الله: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18)﴾ [الحاقة: 17، 18]، وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22]، وعندها يحصل التغابن، لما يكون من فوز المؤمنين بالنعيم، وحرمان الكافرين من كل نعيم يساقون إلى الجحيم، وذلك يوم عظيم حسرته على كل كافر عاصٍ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً(28)﴾[الفرقان: 27 – 29].
فاحذوا إخواني من سخط الله، واطلبوا رضاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير…
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، واعلموا أن الإنسان لن يجد الراحة المطلقة في الدنيا، بل الراحة هناك في الجنة لمن يقدم لها الإيمان والطاعة، والتعب في الأرض واحد، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك، فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح ما قبله من كد وكدح، جاء من حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ” [مسلم (2807)].
عباد الله: إن الراحة المغبوط صاحبها والسعادة الهنيئة عند أول قدم تضعها في الجنة، فما أعظمها من لحظة وأنتم تدخلون الجنة وتضعون أقدمكم لحظة صمت تذوبون فيها بعالم ليس له وصف لا تشعرون بمن حولكم تنسون كل ما مضى في رحلة القدوم للجنة، وصدق الإمام أحمد بن حنبل حينما سئل -رحمه الله-: متى يجد المؤمن طعم الراحة ؟ قال: “عند أول قدم يضعها العبد في الجنة“.
أيها المسلمون: لقد كان من كرم الله بالمؤمن السعيد أنه يحاسب حسابًا يسيرًا، فلا يناقش ولا يدقق معه الحساب: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق: 7 – 9]، ويدل على هذا حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ” قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ -عز وجل-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قَالَ: “ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ” [البخاري (4939)].
هذا حال المؤمن، أما حال المعذب الكافر الهالك المأخوذ بعمله السيئ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره فهذا هو التعيس الذي قضى عمره كدحًا في المعاصي والآثام والضلال، فهو يدعو ثبورًا، ويتمنى الهلاك لينقذ نفسه مما هو مقدم عليه من الشقاء والعذاب، ولكن أنى يستجاب له؟ قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)﴾ [الانشقاق: 10 – 12]، وهذا الصنف من الناس كان في الدنيا مسرورًا بين أهله، غافلاً عن ربه، لاهيًا عما ينتظره في الآخرة من العذاب، وهو يظن أنه لن يرجع إلى بارئه، وربه يعلم بكل خطواته وحركاته، ويعلم أنه صائر إليه، فما أعظم خسرانه: ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15)﴾ [الانشقاق: 13 – 15].
أيها المؤمنون: إن الإيمان بالغيب هو الذي يحكم السلوك الإنساني، ويدخل فيه أساسًا الإيمان باليوم الآخر، فإذا لم يعتقد الإنسان بالآخرة فممن يخاف ويخشى؟ من ذا الذي يرفع يدك عن ضعيف تغتصب حقه إلا إيمانك بالآخرة، ما الذي يوقفك عن أن تأكل أموال الناس بالباطل؟ فالإيمان بالآخرة هو الوازع الخفي لانضباط السلوك؛ لأنك تعرف أن كل عمل تعمله مكتوب عليك، وسيسألك الجبار عنه، فلولا الإيمان بالآخرة لتحولت الدنيا إلى غابة يعيشها وحوش، يقتل القوي الضعيف، ويعتدي القادر على العاجز، ويضيع الحق، وتباح الحرمات، وتنتهب الأموال، وتنتهك الأعراض.
إن أخشى ما يخشاه المؤمن هو حساب الله له في الآخرة، وأخشى ما يخشاه الكافر هو الحساب في الآخرة، فالكافر وإن كان لا يؤمن بالآخرة إلا أن داخله شيء يؤرقه، والموت الذي يراه كل يوم في أهله وقومه يملأ حياته رعبًا وفزعًا، وينغّص عليه عيشه.
عباد الله: إن الله تعالى قد بيّن بالتفصيل أهوال ذلك اليوم العظيم، ليتقيه الناس، ويعملوا لما ينجيهم كما قال -سبحانه-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281]، فما ذلك اليوم الذي نتقيه؟ وماذا يجري فيه؟ وما هي أهواله؟ وما حال الناس فيه؟ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(20)﴾ [النبأ: 17 – 20]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً﴾ [المزمل: 14]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(9)﴾ [المعارج: 8، 9].
واحذروا -عباد الله- من مشاهد يوم القيامة وأهوالها، ففي يوم القيامة ستحدث أحداث ضخمة، تشير إلى اختلال كامل في النظام الكوني المنظور بأفلاكه ونجومه وكواكبه، وانقلاب في أوضاعه وارتباطاته، تكون به نهاية العالم، وكلها ينبئ بأن نهاية هذا العالم ستكون نهاية مخيفة ومروعة للخلائق، حين ترج فيها الأرض وتدك، وتنسف فيها الجبال، وتسجر فيه البحار وتفجر، وتطمس فيها النجوم وتنكدر، وتشق فيها السماء وتنفطر، وتسقط الكواكب وتنتثر، وتكور الشمس، ويخسف القمر، وتبدو السماء مرة كالدخان، ومرة وردة كالدهان، ومرة ملتهبة حمراء، إلى آخر هذا الهول الكوني، قال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)﴾ [الحج: 1، 2].
أيها الناس: كونوا على وجل، فيوم القيامة يوم عظيم، ويوم عسير، تصعد القلوب الحناجر، ويشيب لهوله مفارق الولدان بهذه المشاهد المزلزلة، والتقلبات المخيفة، والأهوال المرعبة، قال الله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)﴾ [التكوير: 1 – 14].
إنه يوم العدل والحساب الدقيق: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ [الزلزلة: 6 – 8]، إنه يوم الموازين: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة: 6 – 11]، وعندها تبيض وجوه وتسود وجوه: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)﴾ [آل عمران: 106- 107].
وكيف تكون حال الإنسان أمام هذه الأهوال العظام: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)﴾ [الواقعة: 4 – 6]، وقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ(3)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)﴾ [الانشقاق: 1 – 4].
عند حدوث هذا حينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفيًا، وتبلى السرائر، وينكشف ما في الضمائر، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران، وهنالك يعضّ الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خفَّ، والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي، وهنالك يفوز المتقون بالفوز العظيم، والنعيم المقيم، والسلامة من عذاب الجحيم.
فانتبهوا -عباد الله- واحذروا، فمن يطيق هذه المشاهد المروعة؟ وهل من مفر منها؟ قال الله: ﴿إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(15)﴾ [الحاقة: 13 – 15]، بل وأين المفر وأنى له أن يفر من قبضة الجبار؟ ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13)﴾ [القيامة: 7 – 13].
إنه يوم الحسرة والندامة، والصراخ والبكاء، يوم الذل والهوان، يوم العذاب والشقاء لكل ظالم ضال، ولكل كافر جاحد، ولكل مفسد: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا(30)﴾ [النبأ: 21 – 30].
وفي المقابل هو يوم الفرح والسرور والتسليم والتسبيح بحمد الله، ويوم العزة والتكريم والسعادة والحبور، ويوم اللذات والنعيم لكل مؤمن تقي عرف هذا اليوم واستعد له، فنال بذلك الفوز والفلاح كما قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36)﴾ [النبأ: 31 – 36]، كما أنه يوم يستظل فيه أقوام ويكرمون، ويأمن من هوله وفزعه آخرون، قال الله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103].
إن يوم القيامة هو اليوم الحق الذي لا يروج فيه الباطل، ولا يقبل فيه الكذب، والخلق فيه ساكتون لا يتكلمون إلا من أذن الرحمن له بالكلام، وقال صوابًا: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38، 39].
أيها المسلمون: ليوم القيامة حكم كثيرة منها: أن يبين الله للناس الذي اختلفوا فيه، وهذا بيان مشاهَد تشترك فيه كل الخلائق، والذي في الدنيا إنما هو بيان إيماني بالآخرة اختص به بعضهم، ومنها إدراك الكافر المبطل بأنه كان كاذبًا، وأنه كان على باطل، فيخزيه الله بذلك أعظم خزي، قال -سبحانه-: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39)﴾ [النحل: 38، 39]، وقوله -سبحانه-: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].
ومن حكم يوم القيامة أن يوفي الله الخلق جزاء ما قدموه من خير أو شر، قال -سبحانه-: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 17]، وقوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]، كما يتجلى أيضًا عدل الله في الحكم بين عباده، وعظمة فضله عليهم، ورحمته بهم، قال -سبحانه-: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(57)﴾ [الحج: 56، 57]،
ومن حكم يوم القيام ظهور كمال علم الرب المحيط عباده، وكمال قدرته على بعثهم وجزائهم، قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [الحجر: 85 – 87]، ويظهر كمال حكمة الرب في خلقه للعباد وإنزاله التشريع لهم على ألسنة رسله وأنبيائه الذين بعثهم، قال -سبحانه-: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
يا عباد الله: علينا الاستعداد لذلك اليوم العظيم بالإيمان والأعمال الصالحة، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب، والاستغفار من كل خلل أو تقصير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]، وليتق العبد ربه، وليستعد لذلك اليوم العظيم، الذي فيه الوعد على فعل الخير والوعيد على فعل الشر كما قال -سبحانه-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
فمن علم أنه راجع إلى الله، فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له ذلك الرغبة والرهبة، والانتباه من الغفلة: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95)﴾ [مريم: 93 – 95]، ومن آمن بالله واطمأن بذكره، وصدق رسله، وعمل بشرعه، فهذا هو الفائز يوم القيامة وهو الذي يقال له: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)﴾ [الفجر: 27 – 30]، اللهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [آل عمران: 193]، فاعملوا إخواني لهذا اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، جنبي الله وإياكم مضلات الفتن في الدنيا، ورزقنا من واسع بره وكرمه، وهدانا إلى الصراط المستقيم.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.