اليقين

عيسى بن يحيى المعافا

عناصر الخطبة

  1. أسباب انتشار المعاصي والذنوب
  2. تعريف اليقين
  3. على قدر قوة اليقين يكون مقدار الإيمان
  4. ثمرة اليقين في وقت انتشار الشبهات والتشكيك في الدين
  5. من حرموا اليقين وقعوا في المعاصي والمنكرات

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى سائر النبيين والمرسلين.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة تخالف الدين فبدعة، وإن كل بدعة ضلالة، وإن من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئًا.

أيها المسلمون: أوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فإن بتقوى الله -سبحانه وتعالى- السعادة في الدارين، كما أخبر الله -جل وعلا- في وصف المتقين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201].

أيها المسلمون: إن انتشار المعاصي والذنوب والسيئات وانحراف كثير من الناس عن منهج الله يعود لأسباب كثيرة، من أعظم تلك الأسباب التي أدت إلى الطغيان وارتكاب المعاصي والمنكرات والغفلة عن الطاعات والواجبات، ابتعاد كثير من الناس عن اليقين، فأداء جميع الفروض من اليقين، فاليقين الذي يعطاه المؤمن سد منيع وحصن حصين من جميع الشكوك والوساوس الانحرافية التي أصيب بها كثير من الناس.

أيها المسلمون: ما هو اليقين؟! اليقين: مِنْ أيقن يوقن إيقانًا فهو موقن، واليقين عملٌ من أعمال القلوب التي تحيا به القلوب وتسكن به الأنفس وتنشرح به الصدور، وهو سبيل الاهتداء إلى طاعة الله -عز وجل سبحانه وتعالى-، وهو دليل الانتهاء عما حرم الله، فالله تعالى يقول عن المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(5)﴾ [البقرة:4، 5].

فعلى قدر قوة اليقين يكون مقدار الإيمان ويكون مقدار الأعمال الصالحة، ويكون مقدار التزكية للنفس، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24]. فالمسلمون اليوم وفي عصر انتشار التشكيك وانتشار الشبهات بوسائل مختلفة؛ أحوج ما يكونون إلى التمسك باليقين، وتصديقهم بوعد الله ووعيده، أن يستمسكوا باليقين المتمثل بتحكيم كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، التمسك بالوحي الذي حفظه الله -عز وجل- فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)﴾ [فصِّلت:41، 42].

وفي أول سورة في القرآن وفي أول آية منها قال سبحانه: (الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:1، 2]، أي لا شك فيه، والمفهوم من ذلك أنه يقين وأنه كلام الله -سبحانه وتعالى-، وأنه محتوٍ على أوامر وعلى نواهٍ، كلها من عند الله -سبحانه وتعالى-، الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم، وهو أعلم بسعادتهم، وأعلم بوسائل نجاحهم، وهو أعلم بالأمور التي تسعدهم، والأمور التي تفسدهم، فأنزل سبحانه المنهج العظيم، وأرسل إليهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- الذي تلقّى الوحي عن الله وأيقن به، وأنزل الله في وصفه: ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النَّجم:17] أيقن بكتاب الله تعالى، وكذلك أيقن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- بما قاله وفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلاغًا عن الله وإخبارًا بالجنة والنار والوعد والوعيد والصراط والميزان، فآمنوا بالغيب وصدقوا بلا ريب، وجاء في وصف أبي بكر -رضي الله عنه- "أنه لم يسبقكم بكثرة صلاة وكثرة صيام، وإنما بشيء وقر في قلبه وصدقه العمل". أي أنه بلغ اليقين فأيقن بوعد الله ووعيده، وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم-، ووصفهم الله في كتابه وأثنى عليهم فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح:4] وقال تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:18]، وقد ورد في شأن بلال -رضي الله عنه- أنه عُذب ونكل به فكان يقول: "أحد أحد". ولم يصدَّه تعذيب قومه له، بل إنه بلغ اليقين، فلما جاءه الموت قال: "غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وصحبه".  

وهكذا صار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- بهذه الصفات العظيمة، فتسابقوا إليها وأيقنوا بالله -عز وجل-، فأعطاهم الله العزة والقوة والنصر والتمكين، وأعطاهم السعادة العزيزة.

وفي هذا العصر حين انتشرت الشبهات والتشكيك من قبل أعداء الله، فربما يقع المسلم في الشك في دينه والشك في القرآن، والشك في الإخبار عن الجنة والنار، وهذه كارثة عظيمة تجرّأ الكثير من المسلمين على الوقوع فيما حرم الله، وإن لم يقولوا الشك بألسنتهم فلسان حالهم يشهد بشكهم، يوم أن يقرؤوا الآيات التي تحرم الخمر وتحرم الزنا وتحرّم الربا، ثم يتجرؤون في الوقوع في ذلك، فأين يقينهم؟! فيستمعون الأدلة التي تحرم السحر وتحرم المعاصي، ومع ذلك يتقحمون في المنكرات التي حرّمها الشرع، وربما تأول بعضهم بتأويلات ويتظاهر بالسيئات غافلاً عن نصوص الوحي.

فلنتقِ الله عباد الله، ولنجدد إيماننا، ولنزكِّ أنفسنا، ولنطهر قلوبنا، ولنحمل أنفسنا على اليقين والتصديق بوعد الله ووعيده، ذلك هو الرادع والزاجر عن ارتكاب الهوى وارتكاب المعاصي والمنكرات. وذلك هو الزاجر عن اتباع الشيطان، وذلك هو الرادع الذي يحجبنا عن معاصي الله ويدفعنا إلى طاعة الله تعالى، وصدق الاتباع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول الله -جل وعلا- في وصف عباده المؤمنين: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2].

اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا هداة مهتدين، وأصلحنا وأصلح بنا واجعلنا صالحين مصلحين، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا أرحم الرحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب وخطيئة، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وأهل بيته أجمعين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا -رحمكم الله- أن الله -سبحانه وتعالى- ذمَّ الأعداء لأنهم لم يوقنوا بخبر الله تعالى، ولم يوقنوا بالآخرة، فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية:32]. لم يكونوا موقنين، فلمّا حرموا اليقين وقعوا في المعاصي والمنكرات، حين حرموا اليقين وقعوا في الشرك بالله والتمرد على سنة رسول الله؛ إذ إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعاهم إلى وحدانية الله، فجاءهم الشك فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5]. فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنًا: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم:10]. فالله -سبحانه وتعالى- وحده لا شريك له، خلق السموات وخلق الأرض، خلقكم من عدم ثم يحييكم ثم يميتكم ثم يبعثكم ثم إليه ترجعون، فتجد كثيرًا من الناس يشاهد الموتى بأم عينيه ثم لسان حاله يعود إلى المعاصي والمنكرات، وقد شاهد الموت وأيقن به، ثم إنه ينكث عن هذا اليقين فيقع في المعاصي والمنكرات، فتبعده عن طريق اليقين، وقد كان من المهتدين، والله -جل وعلا- يقول: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65]، أي يؤمنوا يقينًا بحكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيجب على المسلم أن يتجنب المعاصي والمنكرات بكل نية وكل عزيمة، ومن وقع فيها وجب عليه المبادرة بالتوبة الناصحة الصادقة.

فلنتقِ الله عباد الله، ولنعلم أن يقيننا بالله يقينا من عذاب الله، فحال المسلم يقول: يَقيني بالله يقيني من عذاب الله.

ألا فصلوا وسلموا على من أرسله الله عزيزًا وحكيمًا -عليه الصلاة والسلام- في دعوته، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، ومن تبعهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، واجمعنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نسألك نصرك وعزك يا رب العالمين، ونسألك -يا أرحم الرحمين- أن ترزقنا من بركات السماء ومن خيرات الأرض، وأن تجعلنا من عبادك الشاكرين.

اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.  


تم تحميل المحتوى من موقع