عناصر الخطبة
الحمد لله الذي أرسل الرسل يدعون إلى عبادة الله وجعلهم ناصحين للعباد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأخلصوا العبادة لله وتوبوا إليه واستغفروه.
عباد الله: نوح أرسله الله بعد آدم -عليهما السلام-، ظل قوم نوح يعبدون الأصنام دهرًا طويلاً واتخذوها آلهة يرجون منها الخير، ويستدفعون بها الشر، ويردون كل شيء في الحياة إليها، دعوها بمختلف الأسماء ومنها ود وسواع ويغوث ونسر، على حسب ما يملي عليهم الجهل ويزين لهم الهوى، فأرسل الله إليهم رسولاً منهم، وهو نوح -عليه السلام-، وكان رجلاً فصيح اللسان واضح البيان، رزقه الله الصبر والأناة، فأنذرهم بالعقاب فعموا وصموا، ورغبهم في الثواب فوضعوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا، ولكنه ناضلهم وجادلهم، ثم صابرهم وطاولهم، فمد لهم حبل أناته، راجيًا من الله أن يستجيبوا لدعوته، ويؤمنوا بالله -عز وجل-، ولم يدع اليأس يسلك سبيلاً إلى قلبه، وجاهد في إبلاغ رسالته حق الجهاد، دعاهم ليلاً ونهارًا، وإعلانًا وإسرارًا، ومع كل ما بذل من جهود لم يؤمن به إلا القلة من قومه، استجابوا لدعوته وصدقوا رسالته، أما الذين طبع الله على قلوبهم فلم يؤمنوا به ولا برسالته، وكانوا من سادة القوم فتمالؤوا عليه، واستهزؤوا به، وسفهوا دعوته ورأيه.
قالوا: ما أنت إلا بشر مثلنا وواحد منا، ولو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعثه ملكًا وأجبنا دعوته، ثم إن الذين آمنوا بك هم الأراذل من القوم وأقلهم، وتعالوا عليه فقالوا: أما نحن -أولي الفطنة والأحلام الراجحة- فلن نقتدي بك، ولو كان خيرًا ما سبقونا إليه.
ثم لجؤوا إلى الجدل وأمضوا في المراوغة وقالوا: ما نرى لك -يا نوح- ولصحبك علينا من فضل، لا في العقل ولا في رعاية المصالح ولا معرفة المعاد، بل نظنكم كاذبين، فأجابهم نوح مع حلمه بهم: أرأيتم لو أني كنت على بينة من ربي وحجة شاهدة بصدق دعواي، وآتاني منه رحمة وفضلاً، فعمي عليكم القصد، واشتبه عليكم الأمر، فهل أستطيع لكم إلزامًا أو أملك لحملكم على الإيمان سلطانًا؟!
قالوا: يا نوح إن أردت لنا هداية وتوفيقًا وأردت لنا نصرًا وإعزازًا فاعمد إلى هؤلاء الذين آمنوا -وقد كانوا يحتقرونهم- وأبعدهم عنك، فإننا لا نستطيع أن نسير على أسلوبهم، فكيف يستوي الأشراف والسوقة -حسب زعمهم-، فقال لهم: إنها دعوة عامة شاملة لكم جميعًا، يستوي فيها الجميع، الأغنياء والفقراء، وهبوني أجبتكم إلى طلبكم وطردتهم، فمن الذي أعتمد عليه في نشر الدعوة وتأييد الرسالة؟! وكيف أطرد قومًا نصروني، ولقيت منكم الصدود والخذلان، ووصلت كلماتي إلى قرارة نفوسهم، وما صادفت منكم إلا الجحود والنكران، وكيف حالي معهم بين يدي الله إذا خاصموني وحاجوني وشكوا إلى الله أني قابلت إحسانهم بالجحود؟! ألا إنكم قوم تجهلون.
ولما اشتد بينهم وبينه الجدل سئموا منه، وضاقت صدورهم به وقالوا: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾. فأنكر عليهم نوح، وقال: إنكم تسرفون في الجهل، ومن أنا حتى آتيكم بالعذاب أو أمنعه عنكم؟! ما أنا إلا بشر منكم يُوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فأبلغكم ما أمرت به، وأبشركم بالثواب مرة وأنذركم بالعذاب أخرى، إلا أن مرد كل شيء إلى الله، إن شاء هداكم وإن شاء أمهلكم وإن شاء عاقبكم.
وقد رزقه الله الصبر على أذاهم، كيف لا وهو من أولي العزم من الرسل، مكث في قومه يدعوهم إلى عبادة الله ألف سنة إلا خمسين عامًا، صابرًا على استهزائهم، أملاً من الله أن يؤمنوا، ولكنهم ما ازدادوا إلا نفورًا من دعوته، ففزع إلى الله شاكيًا ملتجئًا مستعينًا مستهديًا في هؤلاء الذين عجزت حيلته فيهم، ويكاد الأمل ينقطع في إيمانهم، فأوحى الله إليه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾، وعندما نفد صبره ويئس منهم دعا عليهم فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)﴾.
فاستجاب الله دعاءه، وأوحى إليه: ﴿وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾، فاتخذ مكانًا قاصيًا بعيدًا عن القوم، وأخذ يصنع السفينة وقومه يمرون به ساخرين مستهزئين، وقال بعضهم: إنك -يا نوح- كنت تزعم قبل اليوم أنك نبي ورسول، فكيف أصبحت اليوم نجارًا، أزهدت في النبوة، أم رغبت في التجارة؟!
وقال آخرون: ما بال سفينتك تصنعها بعيدة من البحار والأنهار؟! أأعددت الثيران لتجرها، أم تظن أن الهواء يحملها؟! ولكنه أعرض عن استهزائهم فقال: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39)﴾.
فلما اكتمل بناء السفينة أوحى الله إليه إذا جاء أمرنا وظهرت آياتنا فاعمد إلى سفينتك، وخذ من آمن من قومك وأهلك، واحمل معك من كل زوجين اثنين حتى يبلغ الله أمره.
وتفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت عيون الأرض، وبلغ السيل الزبى، ثم جاوز القيعان والربا، فهرع نوح إلى السفينة، وحمل ما أمره الله بحمله من الإنسان والحيوان والنبات، وسارت باسم الله مجراها ومرساها، سارت والأمواج تحيط بها وتطرح بين طياتها للكافرين قبورًا، ويغلبهم الموت، وأشرف نوح فوق ظهر السفينة فرأى ابنه كنعان، وكانت شقوة الله قد غلبت عليه فاعتزل أباه، ورغب عن دينه، رأى ابنه يصارع الأمواج، فدعاه إلى الركوب معهم في السفينة رحمة به وإشفاقًا عليه وحبًّا له، ولكن الابن لم يستجب فقال: ﴿قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾، فقال نوح -وقد غلبه الهم والوجد-: يا بني: إنه ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾، ثم فصل بينهما الموج، فكان من المغرقين، ثم دعا الله وقال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، وقد وعدت ووعدك حق أن تنجيني ومن آمن من أهلي، وأنت أحكم الحاكمين، فأوحى الله إليه: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وحينئذ أدرك نوح أن العطف أذهله عن الحق، وكان أولى به أن يشكر الله على أن نجاه من الغرق مع من آمن به، وأهلك الكافرين، عند ذلك التجأ نوح إلى الله مستغفرًا من ذنبه ومستعيذًا بالله من سخطه فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وبعد أن أهلك الله أهل الكفر والعصيان من قومه بالطوفان والغرق كفّت السماء عن إنزال الماء، وابتلعت الأرض الماء، ورست السفينة على جبل الجودي، وقيل: بُعدًا للقوم الظالمين، وقيل لنوح: اهبط بسلام إلى الأرض أنت ومن آمن معك من قومك، تحفكم البركة، وتكلؤكم عناية الله.
أسأل الله أن ينفعني الله وإياكم بهدي كتابه الكريم، وأن نتعظ بما قص علينا فيه من قصص الأنبياء والمرسلين، وما فيها من العبر والعظات والأحكام والعبادات، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، والخوف من عقابه والرجاء لثوابه ورحمته.
عباد الله: نزلت في نوح -عليه السلام- مع قومه آيات كثيرة في كتاب الله القرآن الكريم، وسميت سورة كاملة باسمه هي سورة نوح، وهي مكية وآياتها ثمانٍ وعشرون آية، كان من أعظم مقاصدها: ضرب المثل للمشركين في عهد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوم نوح، وهم أول المشركين الذين سلط الله عليهم أعظم عقاب وهو الطوفان والغرق بالماء من كل جهة، فقد دعا قومه إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذار قومه بعذاب أليم، ومع ذلك كذبوه، فرسولنا محمد -عليه الصلاة والسلام- أنزلت عليه هذه السورة لينذر قومه أن يحل بهم مثل ما حل بقوم نوح الذي دعا قومه بكل الطرق وأمرهم بالاستغفار، فإن الله غفار للذنوب، وإن من يتوب ويتوب الله عليهم يرزقهم المطر المتتابع، ويمدهم بالمال والذرية والخيرات المختلفة من المزارع وغيرها، واستنكر عليهم عدم تعظيمهم لله -عز وجل-، مع أنه هو الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة من عقلة ثم من مضغة ثم أجنة وهكذا، حتى أكمل الله -عز وجل- خلقهم بقدرته العظيمة الباهرة، وذكرهم بخلق الله -عز وجل- للسماوات والأرض، وجعل فيها القمر والشمس، وبسط لهم الأرض، وجعل لهم فيها سبلاً وطرقًا، ومع ذلك عصوا الله ومكروا وتكبروا وأبوا أن يتركوا عبادة الأصنام، فأهلكهم الله مستجيبًا لدعوة نوح -عليه السلام- الذي دعا بأن يهلكهم، ودعا الله أن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين وللمؤمنات، فقال في آخر آية من سورة نوح: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ أي هلاكًا وخسارًا.
نسأل الله أن نكون من المؤمنين الذين تشملهم المغفرة والرحمة، ونعوذ بالله من أن نكون من الظالمين.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.