عناصر الخطبة
منذ بُعث محمد -صلى الله عليه وسلم- والصراع قائم بين الإسلام والنصرانية, ذلك لأن الله حين بعث عيسى -عليه السلام- كان مما بلغه لقومه أنه إذا بُعث محمدٌ فاتبعوه, وفي القرآن: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:6]، ولكن النصارى عتوا وبغوا, فكاتبهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وراسلهم, وراسل هرقل داعياً له إلى الإسلام فامتنع.
وظل النصارى على الإعراض, حتى فتح المسلمون بلادهم, فسقطت مملكة الروم, وأُخرج النصارى, وأُخذت الجزية, واستنفقت كنوزهم في سبيل الله.
وظل النصارى بعد ذلك يؤملون في القضاء على الإٍسلام, كلما أحسوا بضعف من المسلمين تقدموا, وكلما آنسوا غفلة منهم انقضوا, ولكن المسلمين كانوا لأجل العزة والقوة, ولأجل ارتفاع راية الجهاد آنذاك يلقنونهم الدروس مرة بعد أخرى.
ولقد آنس ملك الروم من المسلمين مرةً ضعفاً فكتب لهارون الرشيد كتاباً يهدده ويتوعده, فكتب إليه خليفة المسلمين هارون: "من هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، أما بعد، فالجواب ما ترى لا ما تسمع". وأرسل إليه جيشاً أخذ الجزية منه.
ظل المسلمون أعزة ما كانت الخلافة قائمة, وما كان الجهاد مُشرعاً, وحين أحس النصارى بضعف المسلمين في أواخر الدولة العثمانية بدأت حملاتهم التنصيرية للقضاء على الدولة الإسلامية, وحين ابتعد المسلمون عن ربهم, وتنازعوا فيما بينهم, تحقق للنصارى ما أرادوا, فكان أول شيء فعله قائد القوات الفرنسية غورو الذي احتل دمشق بعد معركة "ميسلون" في ذي القعدة من عام ثمانية وثلاثين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، أن توجه نحو قبر الفاتح صلاح الدين الأيوبي، وركله بقدمه قائلا: ها قد عدنا يا صلاح الدين!.
ونشرت الصحف البريطانية صور "اللَّنْبِي" وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس: "اليَوْمَ اِنْتَهَتْ الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ".
عباد الله: وبرغم أن النصارى استولوا على كثير من بلاد المسلمين حقبة من الزمن, إلا أنهم كانوا -ومازالوا- يخشون من عودة المسلمين إلى سابق عزهم, وأن تصحو هممهم, ولذا قال أحد علمائهم: مَنْ يَدْرِي؟! رُبَّمَا يَعُودُ اليَوْم الذِي تُصْبِحُ فِيهِ بِلاَدُ الغرْبِ مُهَدَّدَةً بِالمُسْلِمِينَ، يَهْبِطُونَ إِلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، لِغَزْوِ العَالَمِ مَرَّةً ثًانِيَةً، وَفِي الوَقْتِ المُنَاسَبِ.
وقال وزير خارجية فرنسا: رَغْمَ اِنْتِصَارنَا عَلَى أُمَّةِ الإِسْلاَمِ وَقَهْرِهَا، فَإِنَّ الخَطَرَ لاَ يَزَالُ مَوْجُودًا مِنْ اِنْتِفَاضِ المَقْهُورِينَ الذِينَ أَتْعَبَتْهُمْ النَّكَبَاتُ التِي أَنْزَلْنَاهَا بِهِمْ، لأَنَّ هِمَّتَهُمْ لَمْ تَخْمدْ بَعْدُ.
وقال أحد علمائهم في كتابه "العالم العربي المعاصر": إِنَّ الخَوْفَ مِنَ العَرَبِ، وَاهْتِمَامَنَا بِالأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ، لَيْسَ نَاتِجًا عَنْ وُجُودِ البِتْرُولِ بِغَزَارَةٍ عَنْدَ العَرَبِ، بَلْ بِسَبَبِ الإِسْلاَمِ. يَجِبُ مُحَارَبَة الإِسْلاَمِ، لِلْحَيْلُولَةِ دُونَ وَحْدَة العَرَبِ، التِي تُؤَدِّي إِلَى قُوَّةِ العَرَبِ، لأَنَّ قُوَّةَ العَرَبِ تَتَصَاحَبُ دَائِمًا مَعَ قُوَّةِ الإِسْلاَمِ وَعِزَّتِهِ وَانْتِشَارِهِ. إِنَّ الإِسْلاَمَ يُفْزِعُنَا عِنْدَمَا نَرَاهُ يَنْتَشِرُ بِيُسْرٍ فِي القَارَةِ الإِفْرِيقِيَّةِ. اهـ.
ولقد ظل النصارى يصارعون في الاستعمار لأجل البقاء لا لأجل الأرض, وإنما كي يقفوا أمام المد الإسلامي, فقد ألقى أحد مستشرقيهم محاضرة بعنوان: "لِمَاذَا كُنَّا نُحَاوِلُ البَقَاءَ فِي الجَزَائِرِ؟" كان خلاصة كلمه فيها أن قال: "إنَّنَا لَمْ نَكُنْ نُسَخِّرُ النِّصْفَ ملْيُونَ جُنْدِيٍّ مِنْ أَجْلِ نَبِيذِ الجَزَائِرِ أَوْ صَحَارِيهَا أوْ زَيْتُونهَا… إِنَّنَا كُنَّا نَعْتَبِرُ أَنْفُسَنَا سُورَ أُورُوبَا الذِي يَقِفُ فِي وَجْهِ زَحف إِسْلاَمِيٍّ مُحْتَمَلٍ يَقُومُ بِهِ الجَزَائِرِيُّونَ وَإِخْوَانُهُمْ مِنَ المُسْلِمَينَ عَبْرَ المُتَوَسِّطِ، لِيَسْتَعِيدُوا الأَنْدَلُسَ التِي فَقَدُوهَا، وَلِيَدْخُلُوا مَعَنَا في قَلْبِ فرَنْسَا بِمَعْرَكَةٍ جديدة يَنْتَصِرُون فيها، وَيَكْتَسِحُونَ أُورُوبَا الوَاهِنَةَ، وَيُكْمِلُونَ مَا كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَيْهِ أَثْنَاءَ حلْمِ الأُمَوِيِّينَ بِتَحْوِيلِ المُتَوَسِّطِ إِلَى بُحَيْرَةٍ إِسْلاَمِيَّةٍ خَالِصَةٍ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُنَّا نُحَارِبُ فِي الجَزَائِرِ". اهـ.
وفي العقود الثلاثة الأخيرة حين رأى النصارى عودة وصحة للمسلمين في أنحاء عديدة, سعوا لإعادة الكرّة للقضاء على الإسلام, فجاءت الحرب الأولى على العراق, ولم تكن وليدة ساعة؛ بل كان يُعدُّ لها من قبلها بسنوات, والهدف منها إضعاف قوة, والانطلاق من منطلق ديني عندهم, وللحقد اليهودي على العراق كون الهيكل دمر فيها, كما تذكر كتبهم, ولاستعجال الملحمة بين النصارى والمسلمين والمسماة بهرمجدون, ولم تكن الحرب لأجل حماية كويت ولا خليج, بل لمصالح القوم.
وجاءت بعدها حرب أفغانستان لتُستغل أحداث الحادي عشر من سبتمبر لضرب الإسلام, ووأد فكرة الجهاد, ووسعت الدائرة حتى شملت دولاً كثيرة, فأوقفت الجمعيات الخيرية عندنا, وكانت التهمة جاهزة لكل داعية ومصلح أنه مع الإرهاب, وقال زعيم الدولة النصرانية حينها إنها حرب صليبية جديدة, ومن لم يكن معنا فهو ضدنا.
وتلتها حرب العراق الثانية، ثم حروب أخرى متفرقة.
وبرغم ما حصل للمسلمين في أماكن كثيرة جراء ذلكم الاستهداف النصراني, فلقد خرج المسلمون بعد ذلك في أماكن كثيرة لم يحتسبوها, ففي فلسطين جهاد, وفي الصومال كذلك, والعراق ما زال يذيق النصارى المصائب, وفي أنحاء أخرى كذلك. فهم يمكرون ويمكر الله, فكم من مرة أوقدوا ناراً للحرب فأطفأها الله.
وحين جاء الربيع العربي -كما يسمى- خرج الملايين من المسلمين في دول جثم عليها التغريب عقوداً خرجوا يطالبون بشرع الله, ويرفضون الظلم, برغم بعض التقصير الموجود.
إنه دين الله، توكل له بالحفظ, وما حاربه أحد إلا خسر, كتب الله لدينه البقاء, ولأوليائه النصرة وإن طال الزمن, اللهم اجعلنا من أنصار دينك.
الخطبةُ الثانية:
الحمد لله رب العالمين…
وصراع جديد بين الإسلام والنصرانية تكشّف اليوم مخفيّه, لقد ظل المسلمون في مالي، تلك الدولة الأفريقية جوار الجزائر، يعانون التضييق وتسلط الأقربين.
وحين سعت فئام منهم لتطبيق الشريعة, وإقامة الحدود، وهدموا القبور والمزارات، تنادت دول النصارى -التي ظلت أشهراً تصم آذانها عن نداءات أهل الشام- تنادت اليوم في أيام للقضاء على هذه النبتة التي تبث الإرهاب كما يقولون, فهب النصارى واعتدوا على تلك البلاد, فنال الناسَ منهم عنتٌ وأذى وتشريد وقتل وبلاء, ما نقموا منهم إلا أنهم مسلمون يعلنون الجهاد, فاعتدى عليهم العدو, وهذا لا يستغرب, وخذلهم كثير من المسلمين, ومالؤوا النصارى عليهم, وتلك حلقة تضاف لمسلسل عدوان النصارى.
ولم ينته الصراع بعد, فقلب نظرك لترى بلاداً عديدة يشكو مسلموها من تسلط النصارى: تجويع وقتال, وتضييق على أهل الإسلام, وحرب أفكار، وإفساد نفوس وأخلاق, ودعوة للتنصير؛ فمن سلم من هذا كله ما سلم من تدخل النصارى في بلده لإفساد أخلاق المسلمين.
عباد الله: وإننا أمام أحداث الصراع مع النصارى عموماً ننطلق من مسلمات خمس, لا بد من التذكير بها.
أولاً: إنّ النصارى حين يقاتلون المسلمين فإنهم ينطلقون من منطلق ديني, ففي نفوسهم عداوة الإسلام، وبغض أهله, ولو أظهروا خلاف ذلك, فقد أنطق الله ألسنتهم فأظهرت ما تنطوي عليه قلوبهم؛ ولذا فصراعهم لم يوجه يوماً لهندوس ولا ليهود ولا لغيرهم, بل للإسلام أينما كان, وتأتي تبعاً لذلك المصالح الدنيوية التي تنال.
ثانياً: إن المسلم يجب أن يوالي المسلمين ويبرأ من الكافرين بقلبه, فلا يكفي أن تعبد الله ببدنك ولسانك، فحتى تتبرأ من الكفار عليك أن توالي المؤمنين بقلبك وأفعالك, قال الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن: والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد؛ لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم؛ فيكون متبعاً لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه.
وثالثاً: إن من أشنع الخصال، وأردأ الفعال, أن يعين المسلم الكفار على صراعهم مع المسلمين, ويظاهرَ المشركين على المؤمنين, بل ذاك أمر عده العلماء من النواقض, أن ينصر المسلمُ الكافرَ على المسلم, بماله، أو بسلاحه، أو بيده.
وهنا؛ كم خوّف الشيطان أقواماً من المسلمين من عدوهم أن ينالهم بأذى, فما نصروا مسلماً، بل ودعموا كافراً خوفاً على منصب أو مكسب! والله يقول: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة:52].
وإن من التقصير والغبن الكبير الشماتة بمسلم لأمر حلّ به, فليس هذا وقت قول: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران:168]، وإنما وقت: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [الأنفال:72].
وأسوأ من الخذلان والشماتة؛ إعانة الكافر على أهل الإسلام, والله يقول في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51].
قال ابن جرير: الصواب من القول في ذلك عندنا أن الله -تعالى ذكره- نهَى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وإن الله ورسوله منه بريئان.
وليس بالأمر الهين أن تعين كافراً, قال ابن باز -رحمه الله-: وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة، فهو كافر مثلهم.
ورابعاً: لو بذل المسلم لليهود والنصارى كل ما طلبوا فلن يقنعوا منه بغير أن يتبع ملتهم, ففي القرآن آية تتلى إلى آخر الزمان لن تتبدل: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:120]، فما بال بعض بني قومنا يسعى لإجابة النصارى واللحاق بركبهم في كل ما طلبوا, طمعاً في كسب المودة؟!.
ما بال بعض بني قومنا يركضون وراء نبذ الشرع وإقرار المنكر, ليرضوا الكفار, والله ورسوله أحق أن يرضوه لو كانوا يعلمون, وهل جنى من حذا حذو خطى القوم إلا سخط الله ثم سخط الناس؟ والله المستعان.
وخامس المسلمات -أيها الكرام- تجاه صراع النصارى مع الإسلام: أننا على يقين بنصرة الإسلام بإذن الله ولو تأخر قليلاً, فقد قال الصادق المصدوق: "يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا, وَإِمَامًا مُقْسِطًا, يَكْسِرُ الصَّلِيبَ".
وفي الأخبارِ أن الدين منصور, لكنه ممتحن, والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
تلك مسلمات قمين بنا أن نستصحبها ونحن نعيش في أزمان صراع, وحقبة مواجهات بين المسلمين وأعدائهم.
ألا رحم الله مسلماً والى المسلمين وعادى الكافرين، ونصر إخوانه بقدر مُسْتَطَاعِهِ, وتبرأ من أعدائه, وأرضى ربه.