عناصر الخطبة
عباد الله: إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته عن غيره إلا بقلبه وروحه، لا بأكوام لحمه وعظامه، فبالقلب والروح يعيش الإنسان ويشعر وينفعل ويتأثّر ويرحم ويتألّم، بل ويكون من الأحياء.
أقْبِلْ على النفس فاستكمل فضائلَهَا *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
وإن من أبرز مظاهر تميّز الإنسان وسموّ أحاسيسه اتصافه باللين والرفق، فاللين والرفق صورتان من صور كمال الفطرة وجمال الخلق التي تحمل صاحبها على البر والتقوى، قال الغزالي -رحمه الله-: "الرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق". اهـ.
ولقد كان النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- أرفق الناس وألين الناس، كما شهد بذلك فعله وسلوكه وأخباره -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يحب الرفق، ويحث الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أُعطِيَ حظَّه من الرفق فقد أُعطِيَ حظَّه من الخير، ومن حُرِم حظَّه من الرفق حُرِم حظَّه من الخير". رواه الترمذي بسند حسن صحيح.
فالرفق خير كله، يهدي الله إليه من يشاء، ويصرف عنه من يشاء، عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق". رواه أحمد وصحّحه الألباني.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثّ الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، وخصَّ من وَلِيَ أمرًا من أمور أمته بالذكر حتى في دعائه، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: "اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه مسلم.
ولم يقف أمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالرفق عند حد الإشارة إليه بالقول، ولكن أراد أن يهدي الناس إليه بفعله، وما أدراك ما رفق النبي -صلى الله عليه وسلم-! إنه الشمس في واضِحَة النهار، والبدر المنير في حَالِك الظلام، ولا يحتاج إلى ما يدلّل عليه.
وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دَليلِ
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أرفق الناس وأرغبهم في الرفق، يرفق بالإنسان والحيوان والطير، بل يرفق حتى بأعدائه -صلى الله عليه وسلم-، فمن مظاهر رفقه ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا". رواه مسلم. فكان الرفق سلوكًا ومنهجًا يتعامل به في كل حياته.
ومن ذلك رفقه بنسائه، روى مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى على أزواجه وسَوَّاق يسُوقُ بهنّ يُقال له: أَنْجَشَة، وكان يَحْدُو للإبل ببعض الشعر حتى تسرع على حِدَائه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ويحك يا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَك القوارير"، وفي رواية: "لا تكسر القوارير"، يعني نساءه ، فأمره بالرفق في السير بهن، قال أبو قِلابَة: "تكلّم رسول الله بكلمة لو تكلّم بها بعضكم لعِبْتُمُوها عليه"، وفي رواية: "يا أَنْجَشَة: لا تكسر القوارير"، ضَعَفَة النساء، وأَنْجَشَة كان أحد عبيد النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال العلماء: سمّى النساءَ قواريرَ لضعف عزائمهنّ تشبيهًا بقارورة الزجاج لضعفها وإسراع الانكسار إليها؛ لأن النساء يضعفن عند شدّة الحركة، ويُخَاف ضررهنّ.
ومن رفقه بنسائه أن يوقف الجيش حتى تبحث عائشة عن عِقْد لها فقدته، عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبَيْدَاء -أو بذات الجيش- انقطع عِقْد لي، فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التِمَاسِه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟! أقامت برسول الله وبالناس معه وليسوا على ماء، ليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خَاصِرَتِي، فلا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله على فخذي، فقام رسول الله حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمّم فتيمّموا، فقال أُسَيد بن الحُضَيْر وهو أحد النُّقَبَاء:" ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العِقْد تحته". رواه البخاري.
تأمل -يا عبد الله- قائد جيش وإمام أمة يوقِف الجيشَ والماء يكفي شربهم فقط، وذلك رفقًا بزوجته حتى تبحث عن عِقْدها الذي فقدته، فيكون ذلك الرفق وهذا الحبس للجيش سبب رحمة للجيش وللأمة جميعًا بنزول آية التيمّم.
ومن مظاهر رفقه بأهله أنه كان إذا هَوِيت زوجته الشيء تابعها عليه، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرجنا مع النبي ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوّفنا بالبيت، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فحضت، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحَصْبَة قالت: يا رسول الله: يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟! قال: "وما طفت ليالي قدمنا مكة؟!"، قلت: لا، قال: "اذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهِلّي بعمرة، ثم موعدك كذا وكذا". رواه مسلم.
وفي رواية زاد في الحديث: قال الراوي: وكان رسول الله رجلاً سهلاً إذا هَوِيت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهَلّت بعمرة من التنعيم.
وكان من مظاهر رفقه رفقه بأبناء المسلمين، فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: "اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما". رواه البخاري.
وعن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله وِلْدَان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدّي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جُونَة عطّار. رواه مسلم.
أما بعد:
وكان من مظاهر رفقه رفقه بالأمهات حتى في الصلاة، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، وأسمع بكاء الصبي فأتجوّز؛ مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه". رواه البخاري. ما أعظم هذه الرحمة! وما أجلّ هذه الشفقة!
ولله درّ القائل فيه -صلى الله عليه وسلم-:
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ *** هذان في الدنيا هما الرحماءُ
ومن مظاهر رفقه رفقه بالجاهل، عن أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَهْ، مَهْ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُزْرِمُوه، دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن". رواه الترمذي بسند صحيح.
انظروا -يا رعاكم الله- كيف رفق بهذا الأعرابي الجاهل، ولم يعنّفه، بل ونهى أصحابه أن يقعوا به!!
يا أيّها الأمّي حسبُك رُتبةً *** في العلم أنْ دانت بك العلماءُ
وقد أحسن من قال عنه -صلى الله عليه وسلم-:
إمـامٌ يهديـهمُ الْحقَّ جاهِدًا *** مُعلّم صِدْق وإن يطيعوه يَسْعَدُوا عَفُوٌّ عن الزلاّت يقبل عذرَهم *** وإن يُحسنوا فاللَّهُ بالخيـر أجودُ
ومن مظاهر رفقه رفقه بالمسلمين عامة، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قام رجل فقال: يا رسول الله: لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوّل بنا فلان، فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضبًا من يومئذ، فقال: "أيها الناس: إنّ منكم لمنفرّين، فمن صلى بالناس فليخفّف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة". رواه البخاري. ومن ذلك لما أخبرته عائشة عن امرأة عندها ذكرت من صلاحها أنها أعبد أهل المدينة، وقيل: إنها تقوم الليل ولا تنام أبدًا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَهْ، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا". رواه البخاري.
فنسأل الله أن يرفق بنا، ويرزقنا الرفق، إنه برّ رؤوف رفيق رحيم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.