عناصر الخطبة
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتوجوا أعمالكم بالإخلاص لله تعالى، واحرصوا على أن تكون صوابًا على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتكون مقبولة عند الله تعالى.
عباد الله: إن مدار الأعمال على النيات؛ فكل عمل لا يراد به وجه الله، فهو باطل لا ثمرة له فى الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ كان هذا العمل مفتقرًا إلى النية؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
والنية عند العلماء يراد بها معنيان:
أحدهما: تمييز العبادات عن العادات؛ كتمييز الغسل عن الجنابة عن غسل التبرد والتنظيف، وتمييز العبادات بعضها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً، وتمييز صيام رمضان عن غيره من صيام النوافل وما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
المعنى الثاني للنية: تمييز المقصود بالعمل؛ هل هو لله وحده، أم لغيره، وهذا هو محل الاهتمام ومناط السعادة والشقاوة والثواب والعقاب؛ فقد يعمل شخصان مثلاً عملاً واحدًا في الصورة، يكون تعبهما متساويًا، لكن أحدهما يثاب والآخر لا ثواب له أو يعاقب؛ نظرًا لاختلاف المقاصد.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر؛ فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة؛ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة؛ كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفًا أو شرفين؛ كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت، ولم يرد أن تسقي؛ كان ذلك حسنات له. ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها؛ فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام؛ فهي على ذلك وزر".
عباد الله: فالخيل هي دابة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم.
فالمسلم مأمور بالإخلاص في أعماله كلها؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
فالإخلاص ينبغي أن يكون في التوحيد، وهو الأساس؛ قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجهه".
وينبغي أن يكون الإخلاص في التوكل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء اشهدهم. فقال: كفى بالله شهيدًا. فقال: ائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت. فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أنى كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بذلك، وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها. فرمى بها في البحر، حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله؛ فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها؛ وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله؛ ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلى بشيء؟! قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة؛ فانصرف بالألف راشدًا".
والإخلاص في الصلاة سبب لقبولها ومغفرة الذنوب؛ فعن عمرو بن عبسة السلمي -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق، فينتثر؛ إلا خرت خطايا وجهه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله؛ إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين؛ إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه؛ إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين؛ إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء؛ فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله؛ إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه".
والإخـلاص في الصـيام سبب لمـغفرة الذنوب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه".
والإخلاص في الجهاد سبب لنيل الشهادة ومغفرة الذنوب؛ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله"، وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قال –صلى الله عليه وسلم-: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله؛ إلا جاء يوم القيامة، وكلمه يدمي؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك".
عباد الله: والإخلاص في الصبر سبب لدخول الجنة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه؛ إلا الجنة".
والإخلاص في أداء ما على الإنسان من الأموال التي للناس سبب لرفعة مؤديها؛ فعن أبى عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم". وفيه: "فقال أحدهم: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم؛ غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت فيه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله: أد لي أجرى. فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله: لا تستهزئ بي. فقلت: لا أستهزئ بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة".
فانظر -أخي المسلم- كيف فرّج الله -سبحانه وتعالى- الصخرة عن هؤلاء المكروبين بسبب دعائهم بصالح الأعمال وإخلاصهم لله تعالى.
ألا فليسمع ذلك الذين يماطلون العمال أجورهم، ويستهزئون بهم، وربما أكلوا أجورهم، ولا يبخسوها، ولا يماطلوا بها.
عباد الله: والإخلاص هو التاج على الأعمال، ولكنه ليس ادعاءً؛ فإن الإنسان وإن ادعى الإخلاص وصدق الناس بذلك؛ فالله لا تخفى عليه خافية؛ فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأُتي به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟! قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ فقال: فما فعلت فيها؟! قال تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟! قال: تصدقت فيك على الفقراء. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار".
ولما بلغ معاوية هذا الحديث؛ بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق؛ قال: صدق الله ورسوله، قال الله -عز وجل-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)﴾ [هود: 15، 16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله في جميع أعمالكم، واجعلوها خالصة لله، واستغلوا أوقاتكم في مرضاة الله.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك، صوابًا على سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وسائر الطغاة المفسدين.
اللهم ردنا إليك ردًّا جميلاً.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة، واجعلهم نصرة للحق وأهله، وحربًا على الباطل وأهله.
اللهم ومن أراد الإسلام أو المسلمين بسوء، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشيدًا؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.