عناصر الخطبة
عرفنا في الجمعة الماضية -ضمن سلسلة من محاسن الدين الإسلامي- صفة جليلة يتمتع بها من عرف حق الفقراء والمساكين، وضرورة العناية بهم، وحبهم، والدنو منهم، انطلاقًا من أثر أَبِى ذَرٍّ -رضي الله عنه- الذي قَالَ فيه: "أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِى، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ". وفي رواية: "فإنها كنز من كنوز الجنة". رواه الإمام أحمد، وهو في الصحيحة.
ونود اليوم -إن شاء الله تعالى- أن نقف على العنصر الثاني الذي يرشد إليه هذا الأثر الجليل، وهو تعظيم نعمة الله، والرضا بعطائه، وذلك قول أبي ذر -رضي الله عنه-: "وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِى". وهذه صفة عظيمة، نبّه عليها ديننا الحنيف، ليعوِّد المسلم نفسه القناعة بما رزقه الله، والاعتراف بنعم الله عليه، والرضا بما قسمه الله له، فإن ذلك هو الغنى الحقيقي. وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة فقال: "ارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس". صحيح سنن الترمذي.
وإنما تتبدى لك قيمة ما أنعم الله به عليك حين تنظر إلى من هو أدنى منك، الذي يعاني أشد مما تعانيه، ويكابد أعظم مما تكابده. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله". مسلم.
قال المباركفوري: "فإن المرء إذا نظر إلى من فُضِّلَ عليه في الدنيا، استصغر ما عنده من نعم الله، فكان سببًا لمقته، وإذا نظر للدون، شكر النعمة، وتواضع وحَمِدَ".
وما منا أحد إلا وهو يعاني إما من مرض، أو فقر، أو قلة الولد والمساند، أو تعاظم مشاكل الدنيا ومصائبها، ولكن ذلك كله يهون عند المسلم بما رزقه الله من صبر ورضا. قال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين". وقال أبو عبد الله البَرَاثي: "من وُهب له الرضا، فقد بلغ أقصى الدرجات".
هؤلاء الصحابة الكرام، الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وخلدوا أسماءهم على صفحات التاريخ، عزة، وكرامة، وبلغونا هذا الدين العظيم، عاش كثير منهم من حالات الحاجة والعوز ما لا يكاد يقدر عليه كثير منا اليوم.
فيا من له قوت يومه، ويشكو من أن يكون مثل فلان أو فلان من أصحاب الأموال، استمع إلى قصة جابر، لتر أنك -والله- بألف خير.
قال جابر -رضي الله عنه-: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها، ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل -نضرب الشجر بالقوس-، حتى قرحت أشداقنا. فَأُقسِمُ أخطئها رجل منا يومًا -لم يعطِه المكلف بقسم التمر تمرته-، فانطلقنا به نَنْعَشُهُ -نرفعه ونقيمه من شدة الضعف والجهد-، فشهدنا أنه لم يعطَها، فأعطيها، فقام فأخذها. مسلم.
ويا من له لباس يستره، وربما له آخرُ يستبدل له الأول، ويأسى أن لم يكن مثل فلان الذي يملك كذا وكذا، انظر إلى حال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم في بداية الإسلام، أشد ما يكونون إلى المؤازرة والقوة، واستفراغ الوسع لنشر دين الله.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: "لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوها في أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ". البخاري.
وهم -مع ذلك- لم يكنوا يهتمون بمثل هذه المظاهر التي أخذت بألبابنا، ولا ببريق الدنيا الذي من أجله تنافسنا، مع أنك -يا عبد الله- لا تدري: ألفقر خير لك أم الغنى؟!
قال السفاريني: "فمن عباده من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد عليه دينه. ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقره لفسد عليه دينه، فمهما قسمه لك من ذلك، فكن به راضيًا مطمئنًا، لا ساخطًا ولا متلونًا، فإنه -جل شأنه- أشفقُ من الوالدة على ولدها".
خرج عروة بن الزبير في سفر إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئًا فظهرت به قرحة، فجيء بالطبيب، فأمر بقطع رجله من نصف ساقه، فرضي بذلك، وقلب رجله المقطوعة بين يديه وقال: "أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام". وبينما هو كذلك، إذ مات له ابن في ذلك السفر، وكان من أحب أبنائه، فرضي بذلك وقال: "اللهم كان لي بنونَ سبعة، فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ منهم ستة، وكانت لي أطراف أربعة، فأخذت مني طرفًا وأبقيت لي ثلاثة، ولئن ابتليتَ، فلقد عافيتَ، ولئن أخذتَ، فلقد أبقيتَ". فكان الوليد بن عبد الملك يبحث عن وسيله يخفف بها مصيبة عروة، فإذ بجماعة من قبيلة بني عبس فيهم رجل ضرير جاؤوا يزورون الخليفة، فسأله الوليد عن سبب كف بصره، فقال: إنه لم يكن في بني عبس رجلٌ أوفر مني مالاً، ولا أكثر أهلاً وولداً، فسرتُ يوماً بمالي وعيالي في بطن وادٍ، فَطَرَقَنَا سيل لم نر مثله قط، فذهب السيل بمالي، وأهلي، وولدي، ولم يترك لي غير بعير واحد وطفل صغير، فهرب البعير، وتركت الصغير على الأرض، فما جاوزت مسافة إلا وأنا أسمع صيحة الطفل، فإذا برأسه في فم الذئب وهو يأكله، ثم رجعت للبعير لكي أنجو بنفسي، فرمحني على وجهي رمحةً حطمت جبيني، وذهبَتْ ببصري، فصرت في ليلة واحدة من غير أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا بصر". قال الوليد لحاجبه: "خذ هذا الرجل، واذهب إلى ضيفنا عروة بن الزبير ليقص عليه قصته، وليعلم كل صاحب مصيبة أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً". وأنشأ عروة يقول:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة *** ولا حملتني نحـو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعـلم أني لم تصبني مصيبة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
يا من ابتلاه الله بالفقر والمخمصة، وقدر الله عليه الحاجة والخصاصة: هل علمت أن الفقراء الصابرين أكثر من يدخل الجنة؟!
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء". متفق عليه.
وهل علمت أن الفقراء الراضين، أسبق إلى الجنة من الأغنياء الشاكرين؟!
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام". صحيح سنن الترمذي. وفي رواية: "بأربعين خريفًا".
وهل تعلم أن الفقراء المحتسبين الراضين، يسقط عنهم الحساب يوم القيامة؟!
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أدى العبد حق الله، وحق مواليه، كان له أجران". قال: فحدثتها كعبًا، فقال كعب: "ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مُزْهِد -قليل المال-". مسلم.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-: "أتعلم؟! أول زمرة تدخل الجنة من أمتي فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد حوسبتم؟! قالوا: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟! فيفتح لهم، فيقيلون فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس". صحيح الجامع.
وَلَرُبَّ أمرٍ مُسخَط *** لك في عواقبه رضا
الله يفعـل ما يشا *** ء فلا تكن مُتعرضًا