عناصر الخطبة
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ أمةَ الإسلامِ -أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم- خيرُ أمة أخرجت للناس، أمةٌ وسط، شهيدة على الناس، هذا ما أخبر به ربنا -عز وجل- عن هذه الأمة المسلمة في وحي يُتْلَى إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِللَّهِ) [آل عمران: 110]، وكما قال سبحانه: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143]، وكما قال سبحانه: (وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَـادِهِ هُوَ اجْتَبَـاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرهِيمَ هُوَ سَمَّـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَـوةَ وَعْتَصِمُواْ بِللَّهِ هُوَ مَوْلَـاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78].
هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان، لا يخافون لَوْمَةَ لاَئِمٍ، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتبصير عباد الله بالإسلام على الطريقة الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبعُ خَيْرِيَّةُ هذه الأمة وتتأكد وَسَطِيَّتُهَا في دينها الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف لو كان لأمور متعددة؟! إنه يحتاج إلى سنوات لما نقله الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازًا، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خيرية الإسلام والأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف؛ ليبحث كُلٌّ بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم-.
إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة، فهي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى كما قال الله -تبارك وتعالى- في محكم آيات القرآن الكريم: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: 18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سُورَتَيْ إبراهيم والنحل وقد جاءت بعد بيان تسخير الله -عز وجل- لنا الأشياء في هذا الكون، ولو تذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا، وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا، لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكرًا وذَلَّتْ رقابُنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله، وعرف كلٌّ منا قَدْرَ نفسِه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام، وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، عندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله -عز وجل-، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته، وحسب سُنَنِهِ الكونية التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [الرعد: 11]، وقال -عز وجل-: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، وقال -عز وجل-: (وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 53-55]، وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتًا يطول على السامعين، ولا أعتقد أنهم يَمَلُّونَ استماع أو تلاوة كلام رب العالمين بإذن الله -تبارك وتعالى-.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة مُنْذِرَةٌ بالخطر، ليس على الواقعين فيها فقط، بل العقاب ينزل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أُنْزِلَتِ الآن، وهي تُصَوِّرُ واقعَنا وتنذر عاقبة أمرنا وتذكرنا بما جَنَيْنَا وما كنا عليه، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أيًّا كان، وهو يشمل أمورًا عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد، وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها. والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسراف في النفقة والإنفاق، وهو التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى: (وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَلْمِسْكِينَ وَبْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْونَ الشَّيَـاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِرَبّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26، 27]، وقال -عز وجل-: (وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]. وقال –صلى الله عليه وسلم- لمن أراد الصدقة عمومًا أو الوقف لينتفع به في الدار الآخرة: "الثلث، والثلث كثير، لأَن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يَتَكَفَّفُونَ الناس".
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب، ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وقد تركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها، ولو خالفها لاعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ وقُوَاهُ وربما أَوْدَتْ بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: (وكُلُواْ وَشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وقال -عز وجل- عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم: (وَلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شرًا من بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا بد فاعلاً فَثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نحن قوم لا نأكلُ حتى نَجُوعَ، وإذا أكلنا لا نَشْبَعُ"، أي: لا يُدْخِلُونَ الطعامَ على الطعامِ مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملؤون بطونهم حتى يُتْخِمُوها بالطعام ويصلوا إلى الشّبَعِ الْمُفْرِطِ.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
فإن المسلم الحق معتدل متوسّط مقتصد في أموره كلها، لا إِفْرَاطَ ولا تَفْرِيطَ، لا غُلُوَّ ولا مُجَافَاةَ، لا إسرافَ ولا تَقْتِيرَ؛ لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزة الحد حتى ولو كان في الاقتصاد الذي يصل إلى حد التقتير، ولا ينتظر توجيهات البشر؛ لأنه يفعل هذه الأمور طاعةً لله -عز وجل- وقُرْبَةً إليه رجاء الثواب من عند الله -سبحانه وتعالى- وخوفًا من عقابه ومحبةً له -عز وجل-، وإذا جاءت الدعوة لأمرٍ ما من ولاة الأمر فإن الأمر لديه عاديٌّ جدًا؛ لأنه عاملٌ به مُنَفِّذٌ له ولا يستغربه ولا يستصعبه أبدًا ولا يستثقله، بعكس الجاهل بتعاليم الإسلام أو المسرف الذي لا يحسب لأمر دينه أي حساب.
والإسراف يُخْشَى على الجميع منه لأن فتنته وضرره يصل الجميع، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16]، وكما حذّر سبحانه من أن ترك أمر الخاصة الظاهر وعدم النهي عنه سوف يصيب العامة كما في قوله تعالى: (وَتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25]، أي: إنها سوف تصيب العامَّة ولا تقتصر على أصحاب المعاصي والمنكرات والآثام، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تتردد الدعوة حولها لترشيد الاستهلاك فيها:
ومنها: الماء، فالمسلم مأمور بالاقتصاد فيه حتى في أمر الطهارة التي منها الوضوء والاغتسال ولو كان أحدنا على شاطئ نَهْرٍ جَارٍ، وهَدْيُ رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- واضحٌ في هذا وغيره، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصَّاعِ ويتوضَّأُ بالْمُدِّ، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كَفَّي الإنسان المعتدلِ الْخِلْقَةِ. فهل أحد يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله -عزّ وجل- نظرًا لوجود المسابح الموجودة في دورات المياه المسماة بالمغاطس والدشوش المتنوعة والمغاسل التي هي أجزاء مساعدة على الإسراف وأيضًا صناديق الطرد المسماة بالسيفونات، ولو استعمل شخص عاقل الأباريق بدل تلك الصناديق أو في الوضوء عند المغسلة ووضوئه عليها والاغتسال في الحمام لئلا يسرف في الماء لَوُصِفَ بالتخلف والجنون، مع أن القائلين بذلك هم الذين يستحقون ذلك الوصف.
وقد مَرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: "لا تسرف في الماء"، فقال: وهل في الماء إسراف؟! قال: "نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن للوضوء شيطانًا يُقَالُ له: الْوَلْهَان، فاتقوا وَسْوَاسَ الماء".
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عَجَبًا في إهدار الماء وفتحه من مصادره ومحابسه إلى أعلى الدرجات، حتى والشخص يَكُفُّ ثيابَه وملابسَه نجد الماءَ مُهْدَرًا نافذًا إلى مجاري الصرف وكأنهم لا يَعُونَ ولا يعلمون شيئًا من سنة رسولهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من مائة مرة عن القدر الذي عليه هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر مع وجود ما يساعدهم على الإسراف مما تحويه دورات المياه.
أما الْمُتْرَفُونَ الذين تَحْوِي قصورُهم ومساكنُهم المسابحَ التي تتسع لعشرات الأطنان بل المئات فَحَدِّثْ عنهم ولا حرج، حيث التغيير والتبديل الأسبوعي للماء إن لم يكن اليومي لدى كثير منهم وإهدار الماء الصالح للشرب؛ لأن الجميع لم يتعب فيه ولم يدفع مقابله إلا قيمةً تافهةً، هذا إِنْ دُفِعَتْ، مع أن الكثير لا يعلم عنها شيئًا، ولو أن عامة الناس قاموا بدفع التكلفة الحقيقية للطن الواحد الذي يصل إليهم بمبلغ أربعة ريالات بدلاً من قرشين لشعروا بقيمة الماء مع أنهم يشترون ماء الشرب بما يعادل ألفي ريال للطن الواحد، ولا يضيق أحدهم ذرعًا بما يدفعه ولا يَتَبَرَّمُ.
أما زيادة السعر عن القرشين في الطن الواحد للماء الواصل إلى المنازل عبر الأنابيب فهو أمر صعب على النفوس التي لا تقدّر هذه النعمة، ولو وُضِعَتْ شرائحُ للاستهلاك بدلاً من المعمول به لعرف الناس قيمة الماء ومقدار النعمة الكبرى التي ينعمون بها، سواء صغار المستهلكين أو المترفين، كل يوضع له السعر المناسب للحد من الإسراف ولكي يُسْتَفَادَ من عائد الدخل في عمل مشاريع لآخَرِينَ يُعَانُون من عدم وصول الماء النقي إليهم وانعدامه عنهم، ونُضُوبِ الماء العادي لديهم وقِلَّتِهِ، فضلاً عن حُلْمِهِمْ بوجود مثل هذا الماء النقي الذي ينعم به أهل المدن.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة بإذن الله، وهي تبدأ من هؤلاء الأشخاص ومن الرجال المسؤولين في بيوتهم والنساء ومراقبة الخادمات اللائي هن أكبر مصدر لإهدار المياه حيث تفتح إحداهن مصدر المياه "الصنبور" إلى آخر شيء ليغسل ويزيل عن الأواني والأدوات المستعملة في الطبخ والأكل والشرب ما عَلِقَ بها مع أقلّ كلفة عليها في مَدِّ يدها واستعمالها لها، ثم الترشيد من الأغنياء والكفّ عن العبث بالماء في المسابح وأشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة التي لا فائدة من وراء إهدار المياه عليها، لا لإِنْسَانٍ ولا لحيوانٍ ولا لطائرٍ، حيث يصرف بعضهم في يومٍ واحدٍ ما تصرفه مئات العوائل في سنوات، ولا أقول هذا مجازفة بل حقيقة واقعة، ومن لديه شك فليسأل المسؤولين الأمناء عن توزيع المياه لا العكس من هذا الوصف الذين هم كُثرٌ في هذه الأيام، فإذا كان الإنسان قدوة فيما يدعو إليه ويفعله استجاب الناس له، والعكس بالعكس.
وواجب طالب العلم والخطيب والواعظ والعالم أن يكونوا قدوة فيما يدعون إليه، كما هو الحال في المسؤول ممثلاً في شخص بمفرده أو هيئة أو مؤسسة اعتبارية في قمة الهرم وأعلاه كما يقال أو في أسفله، مثل الدعوة لترشيد استهلاك الماء إذا لم يوضع في الاعتبار ما ذكر سابقًا إلى جانب أمور لا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا هنا، فإن الأمر سيظل استعطافًا قليل الجدوى والثمرة بعيدًا عن الحزم ووضع الأمور في نصابها، كما هو الحال في الكهرباء إذا لم تبدأ البلديات والمواصلات في الاقتصاد في الإضاءة المهدرة التي تستمر إلى بعد إشراق الشمس بساعة أو تضاء قبل المغرب بساعة مع زيادة الكميات المضاءة عن حاجة الطرق الداخلية والخارجية، إذا لم تكن الجهة قدوة فيما يشاهده الناس فلن تكون الاستجابة مثمرة ومتوقعة لدى كثير من الناس والحال كما ذُكِرَ.
وواجب المسلم أن يستجيب لأمر الله وأمر رسوله وهذه الدعوة التي هي من تعاليم الإسلام المأمور بها قبل أن تكون دعوة من ولاة الأمر، وكذلك على المسلم أن يقتصد في الولائم وحفلات الزواج التي تُهْدَرُ فيها كمياتٌ هائلةٌ من الأطعمة واللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات ثم ترمى في الزبالات ومع القاذورات، وقليل من يحملها إلى البر ويرميها هناك أو يحملها إلى الجمعيات الخيرية، وكفران النعمة يكون عند من لا يحترمها ويقوم بذلك رياءً وسمعة ومفاخرة، مع أن الكثير منهم قاموا باستدانة قيمتها ويقومون بسدادها على سنوات قادمة، وقبل مدة نَشَرَتْ إحدى الصحف صورةً لِصِينِيَّةٍ كبيرةٍ -إناء يوضع فيه الطعام- عليها قعُودٌ -الصغيرُ من الإبل- وعدد من الأغنام تمثل الكرم الحاتمي في إحدى المناطق لشخص كفر نعمة الله -عز وجل-، مع أنه لو وقف فقير على أحد المسرفين وطلب منه عشرة ريالات لما أعطاه، ولو أن كل فرد على أقل تقدير وَفَّرَ ريالاً واحدًا من قيمة استهلاك الماء والكهرباء وأنفقها في وجوه الخير ومشاريعه المختلفة لدى الجمعيات الخيرية القائمة بهذا لقدم لنفسه خيرًا كثيرًا، ووجده في يومٍ هو أحوج لحسنة واحدة: ﴿وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله…