خديجة بنت خويلد

مازن التويجري

عناصر الخطبة

  1. حال العرب قبل الإسلام
  2. سفر \"ميسرة\" غلام خديجة -رضي الله عنها- مع النبي -صلى الله عليه وسلم-
  3. زواج خديجة -رضي الله عنها- بالنبي -صلى الله عليه وسلم-
  4. ضيافة خديجة -رضي الله عنها- لحليمة السعدية
  5. ثبات خديجة -رضي الله عنها- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتثبيتها له
  6. بعض فضائل خديجة -رضي الله عنها- ومناقبها
  7. وفاة خديجة –رضي الله عنها ووفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بعد موتها

الخطبة الأولى:

جميل أن يُتحدث عن الأخلاق الفاضلة، ورائعٌ أن يكتب عن المثل وعظيم السجايا.

هل قرأت يومًا مقالاً عن الصبر أو الحلم فأعجبك واستهواك؟

هل وقعت يدك على قصيدة تحكى قصة الإيمان ورسوخه وثباته، فها لك نظمها، وروعة نسقها؟!

إن نقرأ عن الحلم والأناة، أو نتحدث عن الجود والسخاء ونَصِف الصدق والسماحة وحب الخير للناس، ونعجب من رحمة الرحيم، أو كرم الكريم، وشهامة الشهم.

كل ذلك عظيم! ولكن! أي عجب يستهوينا، وإعجاب سيملأ قلوبنا يوم يجمع الله هذه الأخلاق والخصال، وغيرها من كريم السجايا والطباع، يجمعها كلها لإنسان واحد!.

فكم ستحمل النفوس والقلوب لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة، وكم ستتمثله جموع الموحدين مثلاً يحتذى، وعلمًا يقتدى، لتكون حياته منهاجًا يسير عليه الجيل بعد الجيل؟!.

في زمان عمّ فيه الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر؟!.

يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله.

فيا عجبًا! أإله يؤكل؟!

وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره، وواحد يعبده ويؤلهه.

تقوم الطاحنة، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل.

كل هذا؛ لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عقر، وناقةً سرقت.

يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتقتل البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام وعشرات الإبل.

في هذا الجو المشحون بزيف الباطل، وركام الهمجية والجاهلية؛ ثمة عقلاء، أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوء تعاملهم.

ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها.

إنها أم المؤمنين الرؤوم؛ خديجة بنت خويلد القرشية.

لقد حفظ التاريخ كثيرًا من فضائلها، ولكنه على الرغم من ذاكرته الواسعة لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.

إنها عنوان كل فضل وفضيلة.

لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.

وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له: "ميسرة" على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.

وقبله كان إعجاب غلامها "ميسرة" بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته، أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها.

فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟

فقال: ما بيدي ما أتزوج به.

قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، فهل تجيب؟

فرد متسائلاً: ومن؟

قالت: خديجة بنت خويلد.

فقال: إن وافقت، فقد قبلت.

وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه.

ولقد سعدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها؟

فكانت لا ترد له طلبًا، بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه؟

وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول.

ولما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هناك.

كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة، لحظة أحيت في مثل لمح البصر أو هو أقرب أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها.

قامت خديجة لتدخل حليمة، فطالما سمعت عنها من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- مدحًا، وحبًا، وحسن وصف.

وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: "أمي، أمي".

وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم ورضيعها الأمين، سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة.

فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.

هكذا، كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصلة لمن يحب؟

ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه.

ورزق النبي -صلى الله عليه وسلم- منها الولد فولدت له: زينب، فرقية، فأم كلثوم، ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة -رضي الله عنهن أجمعين-، ثم القاسم، ثم عبد الله.

وكان عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.

ثم جاءه جبريل -عليه السلام- بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا، يقول: "زملوني، زملوني، دثروني، دثروني".

واستوضحت خديجة -رضي الله عنها- منه الخبر، فقال: "يا خديجة لقد خشيت على نفسي".

عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله -تعالى-، قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

فاطمأن فؤاد الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.

ثم انطلقت به إلى ابن عمها "ورقة بن نوفل" وكان قد تنصر فأخبرته الخبر، فقال: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى"[أخرجاه في الصحيحين].

حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.

قال الإمام البيهقي في الدلائل: "إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد".

وقال ابن الأثير: "خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة".

وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.

فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية -رضي الله عنها- زوج عثمان -رضي الله عنه- مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء، ومهج القلوب، يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه.

ولهذا وغيره، حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها.

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني".

زاد الطبراني: قالت خديجة: "هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام".

وهذه -لعمر الله- خاصة لم تكن لسواها.

بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة؟

إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".

فرضي الله عنها وأرضاها، هل كان لأنثى غيرها أن تجهز للنبي -عليه السلام- الجو المعين على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهينه لتلقي رسالة السماء؟

هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبدًأ؟

هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق؟

كلا.

بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وصبورًا.

بارك الله لي ولكم …

 

الخطبة الثانية:

وأعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين لتحاصرها سياسيًا واقتصاديًا، وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت في جوف الكعبة.

وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب، ومرت الأيام، ودار الحول تلو الحول، ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين.

كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة، حتى فرّج الله عنهم.

ولكن أُمنا خديجة -رضي الله عنها- لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت ودبَّ الوهن في جسدها الطاهرة.

وفي يوم موعود لبّت خديجة نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبرها بيده الشريفة.

قضت خديجة في كنف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه.

أخرج البخاري ومسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد".

وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خطّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع خطوط في الأرض، ثم قال: "هل تعلمون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد".

روى مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه السلام- كان إذا ذبح الشاة، قال: "أرسلوا إلى أصدقاء خديجة" فذكرت له يومًا، فقال: "إني لأحب حبيبها".

وفي رواية: "إني رزقت حبها".

روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جاءت عجوز إلى النبي -عليه السلام- وهو عندي، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أنت؟" قالت: أنا جثامة المزنية، قال: "بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟".

قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".

روى أحمد بسند جيد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله -تعالى- خيرًا منها؟

فقال: "ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -تعالى- أولادها إذ حرمني أولاد النساء".

هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنا.

فلو كان النساء كما ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال


تم تحميل المحتوى من موقع