عناصر الخطبة
الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ الغَفُورِ، الحَلِيمِ الشَّكُورِ؛ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَسْتُرُ العُيُوبَ.. يُقِيلُ العَثَراتِ، وَيُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيُكَفِّرُ الخَطِيئاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَهُوَ الغَنِيُّ الكَرِيمُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَرَضَ العِبَادَةَ لِمَصَالِحِ العِبَادِ، وَشَرَعَ المَنَاسِكَ لِنَفْعِ النَّاسِ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 28].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيهِ نِعْمَتَهُ، وَرَفَع ذِكْرَهُ، وأعَلَى شَأْنَهُ، وَهَدَى الخَلْقَ بِهِ؛ فَهُوَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ، وَالنِّعْمَةُ المُسْدَاةُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمُرُورِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، فَهَا هِيَ الأَيَّامُ الفَاضِلَةُ -خَيْرُ أَيَّامِ السَّنَةِ- تَنْقَضِي، ثُمَّ يُخْتَمُ العَامُ فَنَسْتَقْبِلُ عَامًا جَدِيدًا، فَمَاذَا أَعْدَدْنَا لِلرَّحِيلِ؟! وَمَاذَا قَدَّمْنَا لِيَوْمِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(9)﴾ [الأعراف: 8، 9].
أَيُّهَا النَّاسُ: بِالأَمْسِ وَدَّعَ المُتَعَجِّلُونَ مِنَ الحُجَّاجِ البَيْتَ الحَرَامَ، وَاليَوْمَ يُوَدِّعُهُ المُتَأَخِّرُونَ، وَبِهِ تُخْتَمُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَبِخَتْمِهَا تُخْتَمُ المَنَاسِكُ، وَاليَوْمَ هُوَ آخِرُ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ المَعْدُودَاتِ لِلتَّكْبِيرِ المُؤَقَّتِ بِهَا: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّام مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203]، وَهُوَ آخِرُ يَوْمٍ لِذَبْحِ الهَدَايَا وَالضَّحَايَا، فَإِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ هَذَا اليَوْمِ فَلاَ هَدْيَ وَلاَ أَضَاحِي.
يَا لَهَا مِنْ أَيَّامٍ مَضَتْ كَمَا مَضَى غَيْرُهَا، كَانَتْ عَامِرَةً بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، مَلِيئَةً بِالشَّعَائِرِ المُقَرَّبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَأَخَذَ حَظَّهُمْ مِنْهَا المُوَفَّقُونَ، وَضَيَّعَهَا المَحْرُومُونَ، وَغَدًا يَجِدُ كُلُّ عَامِلٍ مَا عَمِلَ أَمَامَهُ فِي كِتَابٍ: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
وَحَقِيقٌ بِالعِبَادِ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُمْ لِدِينِهِ، وعَلَى مَا عَلَّمَهُمْ مِنْ شَرَائِعِهِ وَشَعَائِرِهِ، وَعَلَى مَا وَفَّقَهُمْ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَأَدَائِهَا؛ فَإِنَّ الهِدَايَةَ نِعْمَةٌ، وَالعِلْمَ نِعْمَةٌ، وَالتَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ، وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ؛ حَتَّى لاَ يَنْفَكَّ العَبْدُ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ عَنِ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى.
وَالإِنْسَان -أَيَّ إِنْسَانٍ- إِمَّا أَنْ يَشْكُرَ وَإِمَّا أَنْ يَكْفُرَ، وَلاَ ثَالِثَةَ بَيْنَ الاثْنَتَيْنِ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإِنْسَان: 3].
وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ بِفَهْمٍ وَجَدَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ قَارِئَهُ شُكْرَ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَلاَ سِيَّمَا نِعْمَةَ الهِدَايَةِ لِلْحَقِّ، وَالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَالعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكُمْ هُوَ مَنْهَجُ الأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- كَمَا عَرَضَهُ القُرْآنُ، ابْتُلِيَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِالسَّجْنِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ لهَذَا الابْتِلاَءِ العَظِيمِ فِي مُقَابِلِ نِعْمَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهِيَ نِعْمَةُ الهِدَايَةِ فَقَالَ فِي سِجْنِهِ: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: 38].
وَلاَحَظَ نَبِيُّ اللهِ تَعَالَى سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أَنَّ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنْ دِينِ اللهِ سُبْحَانَهُ هُوَ بِسَبَبِ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَالِدَيْهِ لِلْإِسْلَامِ؛ فَسَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَهُ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ [النمل: 19].
وَلَمَّا كَانَتِ العِبَادَاتُ بِأَنْوَاعِهَا، وَالشَّرَائِعُ بِأَحْكَامِهَا نِعَمٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ، وَيُجْزَوْنَ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ أعَلَى الدَّرَجَاتِ، وَيَنْعَمُونَ بِسَبَبِهَا فِي الدُّنْيَا بِصَلَاحِ قُلُوبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ؛ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا.
وَلَمَّا مَنَحَ اللهُ تَعَالَى لُقْمَانَ الحِكْمَةَ طَالَبَهُ بِالشُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ هُدِيَ بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الحِكْمَةِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، فَصَلَحَتْ أُمُورُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: 12].
وَلَوْلاَ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِإِنْزَالِ الشَّرَائِعِ وَهِدَايَتِهِمْ لَهَا وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهَا لَضَاعُوا وَضَلُّوا وَأَثِمُوا وَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ؛ فَفِي العِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]، وَفِي الهِدَايَةِ لَهَا وَاتِّبَاعِهَا: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].
وَيَتَكَرَّرُ فِي القُرْآنِ خَتْمُ آيَاتِ الشَّرَائِعِ وَالأَحْكَامِ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا؛ فَفِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].
وَفِي آيَاتِ الصِّيَامِ: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].
وَفِي آيَاتِ الحَجِّ: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة:198].
وَفِي آيَاتِ كَفَّارَةِ اليَمِينِ: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89].
وَفِي بَيَانِ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ(60)﴾ [يونس: 59، 60].
وَلَمَّا كَانَتْ مَنَافِعُ المَنَاسِكِ كَثِيرَةً، وَكَانَتْ شَعَائِرُهَا كَبِيرَةً؛ جَاءَ القُرْآنُ بَتَكْرَارِ الشُّكْرِ فِي آيَاتِهَا؛ فالبَيْتُ الحَرَامُ مَوْضِعُ المَنَاسِكِ وَالمَشَاعِرِ قَدْ كُلِّفَ بِبِنَائِهِ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ القَانِتِينَ الشَّاكِرِينَ، وَهُوَ الخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-؛ إِذْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ(121)﴾ [النحل: 120، 121].
وَالغَرَضُ مِنْ بِنَاءِ البَيْتِ أَدَاءُ العِبَادَةِ فِيهِ شُكْرًا للهِ تَعَالَى، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَعْوَةُ بَانِيهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].
وَفِي أَيَّامِ الحَجِّ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِذَبْحِ الأَنْعَامِ وَهُوَ وَاهِبُهَا وَمُسَخِّرُهَا، وَيَأْجُرُهُمْ عَلَيْهَا، وَعُلِّلَتْ نِعَمُ تَذْلِيلِهَا وَتَسْخِيرِهَا بِالشُّكْرِ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73)﴾ [يس: 71 – 73].
كَمَا عُلِّلَتْ نِعَمُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِذَبْحِهَا وَنَحْرِهَا بالشُّكْرِ: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 36].
فَهِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى وإِلَيْهِ، وَنَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَعُودُ إِلَيْنَا، فَنَنْتَفِعُ بِهَا: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].
فَحَرِيٌّ بِنَا -عِبَادَ اللهِ- وَنَحْنُ نُوَدِّعُ هَذَا المَوْسِمَ الكَبِيرَ، أَنْ نَلْحَظَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِ، وَفِيمَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ والمَنَاسِكِ، وَفِي كُلِّ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَأَبْوَابِهَا وَتَفْصِيلِهَا؛ فَإِنَّنَا إِذَا اسْتَشْعَرْنَا ذَلِكَ لَهَجْنَا للهِ تَعَالَى حَامِدِينَ شَاكِرِينَ، وَأَتَيْنَا مَوَاطِنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ، وَجَانَبْنَا مَوَاضِعَ الجُحُودِ وَالكُفْرِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ…
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ يُدْرِكُ المُؤْمِنُ مَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى البَشَرِيَّةِ مِنْ نِعْمَةِ بَيَانِ الدِّينِ، وَإِنْزَالِ الشَّرَائِعِ يَمْتَلِئُ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَلْهَجُ لِسَانُهُ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ.
وَحِينَ يَسْتَشْعِرُ نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِالهِدَايَةِ لِلدِّينِ الحَقِّ، وَتَوْفِيقِه إِيَّاهُ لِأَدَاءِ شَرَائِعِ هَذَا الدِّينِ، وَالتَّمَتُّعِ فِي رِيَاضِهِ، يُكْثِرُ مِنْ حَمْدِ اللهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَنْ صُرِفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنِ الدِّينِ كُلِّه ِأَوْ بَعْضِهِ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا كَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ- فِي حَفْرِ الخَنْدَقِ يَرْتَجِزُ قَائِلًا: "وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا".
فَيَا أَيُّهَا المَهْدِيُّونَ لِلدِّينِ الحَقِّ، وَيَا مَنْ عَظَّمْتُمْ شَعَائِرَ اللهِ تَعَالَى، وَأَدَّيْتُمْ فَرَائِضَهُ، وَفَارَقْتُمْ مَحَارِمَهُ، وَوَقَفْتُمْ عِنْدَ حُدُودِهِ: اشْكُرُوهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَكَرِّرُوا الشُّكْرَ مَعَ تَكْرَارِ مَوَاسِمِهِ العَظِيمَةِ؛ فَإِنَّ مَوَاسِمَهُ سُبْحَانَهُ نِعَمٌ، وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّعَائِرِ نِعَمٌ، وَمَا يُكْتَبُ فِيهَا مِنَ الأَجْرِ نِعَمٌ، وَمَا يَتَنَزَّلُ فِيهَا مِنَ العَفْوِ وَالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ نِعَمٌ، كُلُّ أُولَئِكَ نِعَمٌ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى العِبَادِ، فَحَرِيٌّ بِهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى وَيَحْمَدُوهُ وَيُكَبِّرُوهُ عَلَيْهَا وعَلَى مَا هَدَاهُمْ لَهَا، وَوَفَّقَهُمْ لِأَدَائِهَا.
يَا مَنْ صُمْتُمْ عَشْرَ ذِي الحَجَّةِ: اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَيَا مَنْ صُمْتُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى حِينَ هَدَاكُمْ لَهُ، وَأَعَانَكُمْ عَلَى صِيَامِهِ، وَيَا مَنْ ذَبَحْتُمْ أَضَاحِيكُمْ: اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَمَا هَدَاكُمْ لِتَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ بِذَبْحِهَا، وَمَا تَمَتَّعْتُمْ بِه مِنْ لَحْمِهَا، وَيَا مَنْ أَقَمْتُمْ أَيَّام العَشْرِ تَرْتَعُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى: اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى إِذْ هَدَاكُمْ وَأَعَانَكُمْ عَلَى الصَّوَارِفِ وَالشَّوَاغِلِ، وعَلَى النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَيَا مَنْ حَجَجْتُمْ بَيْتَ اللهِ الحَرَامِ: اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى حِينَ اخْتَارَكُمْ لِحَجِّ بَيْتِهِ، وَوَفَّقَكُمْ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ، وَقَدْ حُرِمَ ذَلِكَ مَلايِينُ المُسْلِمِينَ، وَمِلْيَارَاتُ البَشَرِ.
وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ نُوَفَّقُ إِلَيْهِ فَهُوَ بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وهَذَا هُوَ مَعْنَى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]؛ أَيْ: نَسْتَعِينُ بِكَ رَبَّنَا فِي كُلِّ أُمورِنَا حَتَّى فِيمَا أَمَرْتَنَا بِهِ مِنْ عِبَادَتِكَ، وَلَوْلَا عَوْنُكَ لَمَا عَبَدْنَاكَ، وَمِنْ ذَلِكَ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ لَهُ: "يَا مُعَاذُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ"، فَقَالَ: "أُوصِيكَ -يَا مُعَاذُ- لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…