سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (75) – فتح مكة (3)

إبراهيم الدويش

عناصر الخطبة

  1. وقائع وأحداث الفتح
  2. العفو شيم الكبار
  3. أهم النتائج المترتبة على فتح مكة .

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله وأصحابه ومن استن بسنته ونهج نهجه إلى يوم الدين أفضل صلاة وأزكى تسليم.

أما بعد: إخوة الإيمان! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالسعيد من راقب الله، وأحسن تعامله مع ربه، السعيد من اتبع هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فالمسلم العاقل يتحرى سلامة المنهج والذي لن يكون إلا باتباع هدي القرآن والسنة.

وما أحوجنا والله في هذا الواقع المعاصر لتتبع سيرة حبيبنا وقدوتنا وأسوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والوقوف على دروسها وعبرها، واليوم نُكمل مسيرتنا مع سيرة خير البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ولا يزال حديثنا متواصلاً حول ما جرى في الطريق إلى مكة، في فتح مكة. وقد أسلم أبو سفيان، ورأى جموع المسلمين الهائلة، فما الذي جرى بعد إسلامه؟ لقد عاد أبو سفيان إلى مكة صارخًا في قومه، منذرًا لهم: يا معشر قريش، هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، وأمرهم أبو سفيان أن يلزموا بيته أو أن يبقوا في بيوتهم، أو يدخلوا المسجد؛ حتى يكونوا في مأمن. (انظر: سيرة ابن هشام 2/405).

وأصبحت مكة مهيأة لدخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا قتال، فما هي الخطة التي وضعها -صلى الله عليه وسلم- للدخول؟ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ -الرَّجَّالَةُ وسُمُّوا بِذَلِكَ لِخِفَّتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ-، وَبَطْنِ الْوَادِي“(مسلم: 1780).

وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كَدَاءٍ من أعلى مكة، وأعطاه رايته وأمره أن يغرزها بِالْحُجُونِ -الثنية التي تفضي على مقبرة المعلاة والمقبرة عن يمينها وشمالها مما يلي الأبطح-، ولا يبرح حيث أمره أن يغرزها حتى يأتيه.

وبعث خالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قُضَاعَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وغيرهم، وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأمره أن يغرز رايته عند أدنى البيوت.

كما بعث -صلى الله عليه وسلم- سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلون أحدًا إلا من قاتلهم. (انظر: دلائل النبوة 5/399).

وبهذا وزَّعَ المهام، ورسم -صلى الله عليه وسلم- خطته لدخول مكة من جهاتها الأربع؛ لمباغتة قريش، وشلِّ حركتها عن المقاومة، وتعجيزها عن الالتفاف حول جيشه، وقد كان ما أراده -عليه الصلاة والسلام-، فدخل مكة بلا قتال، إلا ما كان من صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن زَمَعَةَ وسهيل بن عمرو فقد جمَّعوا جماعة من قريش والأحابيش وأتوا الْخَنْدَمَةَ -جبل عند أحد مداخل مكة-، ليقاتلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقيهم خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فناوشوهم، فقتل خالد منهم ثلاثة وعشرين رجلاً وهزمهم، وانسحب من بقي منهم مدحورًا!

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أصدر أوامره كذلك للأنصار أن يُجهزوا على من يحول بينهم وبين مكة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: “يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ“، قال: فَدَعَوْتُهُمْ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ؟” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “انْظُرُوا، إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصُدُوهُمْ حَصْدًا“، وَأَخْفَى بِيَدِهِ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَقَالَ: “مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا“، قَالَ: فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ (أي: ما تعرض لهم أحد إلا قتلوه)، وَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّفَا، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ“.

 

فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: “قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا؟ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ” قَالُوا: وَاللهِ، مَا قُلْنَا إِلَّا ضَنًّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: “فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ“(مسلم: 1780).

قال النووي: “أوحى الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأعلمه بذلك، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم- قلتم كذا وكذا، قالوا نعم قد قلنا هذا. فهذه معجزة من معجزات النبوة“(شرح النووي على مسلم 12/ 128).

وفيها محبة الأنصار لنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ووفاؤه -صلى الله عليه وسلم- لهم، وتطيبه لخاطرهم. دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة على ناقته، وهو يقرأ سورة الفتح. (البخاري 4281، ومسلم 794).

وكان دخوله -صلى الله عليه وسلم- دخول المتواضع الخاشع، لا دخول الفاتح المتعال، وقد خفض رأسه تواضعًا لله -عَزَّ وَجَل- بعد ما منَّ عليه بالفتح، دخل -صلى الله عليه وسلم- “وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ“(مسلم 1359).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أعلن دستوره الأخلاقي الرفيع لهذا اليوم حينما سمع مقالة سعد بن عباده لأبي سفيان: “الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا” فقال -صلى الله عليه وسلم- مُصوِّبًا: “الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا“(انظر: عيون الأثر 2/221).

ولما دخل -صلى الله عليه وسلم- مكة واطمأن الناس، مشى حتى جاء البيت الحرام، كما يُخبر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: “دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]، ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾[سبأ: 49]”(البخاري 4287، ومسلم 1781).

كان مشهد عظيم بديعٌ له تأثير عميق في النفس البشرية، فها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون قد مكَّن الله لهم، وأقام بهم صرح الحق عاليًا، وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة هادمًا تلك الأصنام التي يعبدها الناس من دون الله -عَزَّ وَجَل- لا يقوى أحدٌ على منعه، وقد أخرجوه وأصحابه من قبل ظلمًا وفجورًا!

أما كفار مكة الذين آذوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أشد الإيذاء، فقد صاروا بين يديه -صلى الله عليه وسلم- بإمكانه اليوم أن يُصدر أمرًا بقتلهم جميعًا، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- الرحمة المهداة، فهو من بعثه الله رحمة للعالمين، يا الله معاشر المؤمنين.

يا الله يا عباد الله ما أعظم ذلك اليوم، ما أجَلّه من موقف يوم فتح مكة، يوم لا يُنسى بتاريخ المسلمين، فقد تحقق موعود الله بعد شدة وأذى وألم، سبحان الله!، كم هي المسافة من وقت خروجه عليه -صلى الله عليه وسلم- من مكة وحيدًا طريدًا غريبًا وهو يردد بحسرة: “والله إنّكِ لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله -عز وجل-، ولولا أني أُخرجت منكِ ما خرجت“، ثم رجوعه -صلى الله عليه وسلم- بعشرة آلاف رجل منصورًا شامخًا.

ولعل هذا المشهد الحواري العجيب البديع الذي جرى بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين صناديد قريش! يختصر لنا كل الجُمَل والعِبَر، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: دَخَلَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ، طَافَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ، فَقَالَ: “مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟” قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ، وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ، قَالَ: “مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟”، قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ، حَلِيمٌ رَحِيمٌ، ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ🙁لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 92]” فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. (دلائل النبوة للبيهقي 5/ 58).

وفي رواية ابن إسحاق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟” قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ“(انظر: سيرة ابن هشام 2/ 412).

وبذلك يضرب لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل والقدوة في العفو عند المقدرة، “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” تعلموا التسامح والبعد عن الانتقام، “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” لم يجبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على الدخول في الإسلام، “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” لم ينتقم منهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل أخلى سبيلهم، “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” ترك لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرية فيما يفعلون، وهذا أمر لم يتوقعوه، قال لهم: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” فتنفسوا الصعداء، وخرجت أنفاسهم من صدورهم بعد أن حبسها الخوف من حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم.

“اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” هنا امتلأت القلوب بالأمن بعد الخوف، والنور بعد الظلام، والإيمان بعد الكفر، فدخلوا في دين الله أفواجًا، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾[النصر: 1-3].

تعلموا من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقارنوا بين ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبين ما تفعله اليوم الجيوش المنتصرة بالجيوش المنهزمة، وما يفعله الغالب بالمغلوب، لتعلموا الفرق بين الإيمان والكفر، وبين حضارة الإسلام والحضارات الأخرى، ثم أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن طلحة على سدانة الكعبة، قال ابن إسحاق: “ثم جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية -صلى الله عليك-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟” فدعي له، فقال: “هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ“(سيرة ابن هشام 2/ 412).

وهذا درس آخر بإعطاء كل ذي حق حقه، وهكذا فلم يشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستبد بمفتاح الكعبة، أو أن يضعه في أحدٍ من بني هاشم؛ ويتجلى بره -صلى الله عليه وسلم- ووفاؤه حتى مع الذين غدروا ومكروا، وتطاولوا.

“ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة“(سيرة ابن هشام 2/ 413).

فتأملوا عباد الله: أليس هذا بلال العبد الحبشي الذي ذاق مرارات العذاب والظلم والقهر على يد القرشيين؟! ها هو يصدح بذكر الله عاليًا تسمعه قريش كلها، بلالٌ ينطق بكلمات التوحيد مشنّفًا بها أسماعهم! إنها نعم الله -عز وجل- يسبغها على عباده الصابرين على الأذى، ووعد الله لعباده بنصرهم على جند الشرك وأهله.

وبفتح مكة أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- إغلاق باب الهجرة منها، فلا هجرة بعد فتح مكة، فعن عبد الله بن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا“(البخاري 2783، ومسلم 1353).

يقول النووي- رحمه الله-: “معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازًا ظاهرًا انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإسلام قوي وعزّ بعد فتح مكة عزًّا ظاهرًا بخلاف ما قبله“(شرح النووي على مسلم 13/ 8).

عباد الله: إن فتح مكة من الأحداث المهمة في التاريخ الإسلامي فقد نتج عنها كثير من النتائج التي أثَّرت في تاريخ الإسلام، كدخول مكة في الإسلام، وزوال دولة الكفر من مكة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقوة قريش العظيمة أصبحت أداة قوة كبرى بيد المسلمين؛ لنشر دين الله في الآفاق؛ ولهذا: فقد مهد هذا الفتح الطريق لكثير من القبائل للدخول في الإسلام، كما قال عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ -رضي الله عنه- قال: “كَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمُ الفَتْحَ -أي: تنتظر فتح مكة حتى تعلن إسلامها-، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ“(البخاري 4302).

ومن نتائج ذلك اليوم العظيم: أن تطهرت مكة بيت الله الحرام من مظاهر الشرك والأوثان والأنصاب والأزلام وغيرها، فكانت بداية لتطهير جزيرة العرب من كافة أشكال الشرك، وبالفعل تدافعت سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تترى؛ لتطهير أرض الجزيرة من مظاهر الشرك والأوثان، فلم يبق في أرض الجزيرة صنمٌ يعبد من دون الله، ومازالت بفضل الله فها نحن نراها اليوم بعيدة عن مظاهر الشرك والأوثان فالحمد لله على نعمة التوحيد، الحمد لله على نعمة الأمن والأمان، الحمد لله، وأدام الله عِزَّ هذه البلاد بالإسلام وحفظها من كل مكر وكيد.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع