عناصر الخطبة
الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعلنا أهل الإِسلام في الناس خير أمة، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وكان بُشرى للمؤمنين ونذرًا للمخالفين ولجميع العالمين رحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، كمل به بناء النبوة وختم به ديوان الرسالة، ونمت بعثته مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فالفلاح لمن تبعه، والخزي والخسارة لمن عصاه وخالف أمره، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا على الحق أعلامًا وللهدى أئمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، اتقوا الله ما استطعتم، واحذروا غضبه ومقته، فكم أغدق خيرًا، وكشف ضرَا، وستر عيبًا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30].
أيها الإخوة المسلمون: لا حياة لأمة الإِسلام إلا بالإِسلام، بقاؤها مرهون بالمحافظة عليه، وفناؤها راجع إلى التفريط فيه، تبقى ببقائه في قلوبها، وتضمحل باضمحلاله من نفوسها وديارها، إنه دستورها ونظامها؛ بل هو عزها وحياتها. دين كامل في مبناه، واف في معناه، سام في مغزاه، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا؛ دين نسبه الله لنفسه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19]
أيها المسلمون: امتنَّ الله -سبحانه وتعالى- على عباده إذ بعث فيهم رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]
أخبر -عز وجل- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- من جنسهم، يعرفون نسبه، ولغته، وصدقه، وأمانته؛ وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128]
وأخبر أنَّه شفيق على أمته يشق عليه ما يشق عليها؛ وكم ترك من أعمال وأمور خشية المشقة على أمته، قال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾.
ثم ذكر -عز وجل- أنه -صلى الله عليه وسلم- شديد الحرص على هداية أمته، وحصول النفع الدنيوي والأخروي لها، كما قال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾، وختم سبحانه الآية بأنه -صلى الله عليه وسلم- رحيم بالمؤمنين، قال تعالى: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
ومن رحمته بأمته وشفقته عليهم: اجتهد في سد كل طريق يوصل إلى الشرك، وحذر وأنذر، وأبدى وأعاد، وخص وعم، وقطع الذرائع والوسائل المفضية إليه، فـ -صلى الله عليه وسلم-، كما بلغ البلاغ المبين.
ومن حمايته لجناب التوحيد: أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تعطيل البيوت من صلاة النوافل، والدعاء، وقراءة القرآن، فتكون بمنزلة القبور، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قَبَورًا، فإنَّ الشيطان يَنْفرُ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة" رواه مسلم.
وأمر -صلى الله عليه وسلم- بتحري العبادة في البيوت، فقال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة" رواه البخاري. ونهى عن فعلها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة.
فمنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصلاة والدعاء وغير ذلك من العبادات في المقبرة، وإن كان المُصلي لا يُصلي إلا لله، فعبادة الله عند قبور الصالحين تؤدي إلى الشرك وعبادة أصحابها من دون الله؛ وذلك من البدع القادحة في الدين. وبهذا يتبين لنا كمال حماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجناب التوحيد وسده كل طريق للشرك.
ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ قبره عيدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تجعلوا قبري عيدًا" فتكرار زيارته والاجتماع عنده على وجه معتاد لأجل عبادة الله وسيلة إلى الشرك به، فالنهي عام لجميع القبور؛ لأن قبره -صلى الله عليه وسلم- أفضل قبر على وجه الأرض، ومع ذلك قد ورد المنع من اتخاذه عيدًا، فقبر غيره أولى بالمنع كائنًا من كان.
أيها المسلمون: لا يجوز شد الرحال والسفر لأجل زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: "لا تشدوا الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فإن نوى بشد الرحال زيارة القبر فقط فيحرم ذلك، وإن نوى الصلاة في المسجد والزيارة جاز ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا" رواه مسلم.
ومن أفضل صيغ الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
والصلاة من الله على العبد: الثناء عليه في الملأ الأعلى. ولا تعرض عليه -صلى الله عليه وسلم- من أعمال أمته إلا الصلاة والسلام عليه فقط، لا كما يظنه أهل البدع أن كل أعمال أمته تعرض عليه.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بالصلاة والسلام على نبيه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] كما أمر -صلى الله عليه وسلم- بكثرة الصلاة عليه في أي مكان من الأرض، وبين أنَّ ذلك يبلغه من القريب والبعيد على حد سواء، وأجرهما واحد فلا حاجة إلى المجيء إلى قبره، قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء"، وهذا من كمال نعمة الله وتيسيره على المسلمين.
فإن سلَّم المُسلم عليه عند القبر، أو سلّم عليه من بعيد، عُرض على الرسول -صلى الله عليه وسلم- سلامه وبلغه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّ لله ملائكة في الأرض سيَّاحين يُبَلِّغُوني منْ أمتي السَّلام" رواه أحمد. وهذا ما خصَّ به -صلى الله عليه وسلم-.
وقد حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على قطع الطرق المؤدية إلى الشرك.
عن علي بن الحسين -رحمه الله-: "أنه رأي رجلاً يجيءُ إلى فرجة -وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما- كانت عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: "ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا".
أنكر علي بن الحسين -رحمه الله- على رجل مجيئه إلى فرجة عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخوله فيها يدعو الله -سبحانه- لأن ذلك من اتخاذ قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عيدًا، وفي هذا الفعل مشروعية إنكار المنكر وتعليم الجاهل.
كما أن قصد الرجل قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذ قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عيدًا وهو المنهي عنه.
قال شيخ الإسلام: "ما علمت أحدًا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من إتخاذه عيدًا".ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليُصلي منهي عنه؛ لأن ذلك من اتخاذه عيدًا وأنه لم يشرع، وكره الإمام مالك -رحمه الله- لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.
وإنما كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة أفضل وأكمل، وكانت الحجرة في زمانهم يؤتى إليها من الباب، ومع التمكن لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم.
فلم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، لنهيهم بقوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا" وغير ذلك، وإنما كان يأتي أحدهم من الخارج، إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعله، فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، والسلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف ولا يقف للدعاء".
قال شيخ الإسلام: "لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة، فصار بدعة". واتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر.
وفي هذا الحديث -أيضًا-: دليل على منع شد الرحل إلى قبره -صلى الله عليه وسلم-، أو غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، ومن أعظم أسباب الإِشراك بها، كما هو الواقع.
واتفق الأئمة على المنع من ذلك؛ لما في الصحيحين: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجـد الأقصـى" فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، بل هي أولى بالنهي.
وبهذا يتبين لنا -عباد الله- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن اتخاذ القبور عيدًا؛ حماية لجناب التوحيد، وسدًا لكل طريق يوصل إلى الشرك، وهذا من كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- ورحمته بأمته وحرصه على هدايتهم، فعلينا اتباع أمره واجتناب نهيه، ففي ذلك الفوز والفلاح العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]
بارك الله لي ولكم.
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتفرد بالبقاء والكمال، أحمده -سبحانه-، وأشكره على جزيل الإِنعام والإِفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو الكبير المتعال.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المنقذ بإذن ربه من الضلال، والداعي إلى كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: فبتقوى الله تنال الدرجات، وتزكو الأعمال، واكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.
عباد الله: معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: هو الاعتراف باطنًا وظاهرًا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألاَّ يعبد الله إلا بما شرع.
ولشهادة أن محمدًا رسول الله ركنان: هما قولنا: عبده ورسوله، وهما ينفيان الإِفراط والتفريط في حقه -صلى الله عليه وسلم-، فهو عبده ورسوله، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد؛ أي: أنه بشٌّر مخلوق مما خُلق منه البشر، يجري عليه ما يجري عليهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]
وقد وفى -صلى الله عليه وسلم- العبودية حقها، ومدحه الله بذلك، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36] ومعنى الرسول: المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا.
وفي الشهادة بهاتين الصفتين: نفي للإِفراط والتفريط في حقه -صلى الله عليه وسلم-، فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه، وغلا فيه؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى مرتبة العبادة من دون الله، فاستغاث به من دون الله، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؛ من قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته، واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به؛ وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه.
جعلنا الله وإياكم ممن حقق التوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا، واتبع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا.
هذا، وصلوا وسلموا.