عناصر الخطبة
إن الحمد لله.. خطبة الحاجة..
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله؛ فهي رأس الفلاح في الدنيا والآخرة، وما أفلح إلا المتقون.
معاشر المسلمين: إننا في هذه الدنيا، بل في هذا المجتمع الذي نعيشه نرى المتغيرات في الأخلاق والتعاملات، بل في العبادات من شأن كثير من الخلق، وقليل منهم الذي يثبت على مبدئه ومنهجه حتى الممات.
إن الناظر إلى أحوال الأمة منذ وفاة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى وقتنا هذا يجد أن الناس في جهاد مع التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فمن ثابت ومن متغير، والتغير إما إلى الأحسن وإما إلى الأسوأ.
والطابع العام للمجتمع بل للأمة أنه شر ممن قبله؛ مصداقًا لحديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، الذي أخرجه البخاري من حديث أنس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأتي عليكم عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"، والمقصود وضع الأمة في الجملة، وإلا فقد يكون حال الرجل في هذا العام خيرًا منه في العام الذي قبله، وهذا بحمد الله كثير.
عباد الله: لقد حث الله -تعالى- على الثبات، ومدحه في كتابه مهما كانت المتغيرات أو المرغبات أو حتى المرهبات، قال -تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]، وقال: ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، فالثبات على الحق أمر مطلوب من كل مسلم ومسلمة من الجن والإنس والتردد والتذبذب من حال المنافقين كما قال -تعالى-: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ [النساء: 88]، وقال ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون﴾ [التوبة: 45].
وإن مما يمتدح به الرجل أو المرأة أن يكون ثابت الرأي غير متقلب، بل المتقلب لا يمدح ولا يصاحَب؛ لعدم ثبات صحبته ولصعوبة معاملته.
ولقد كان من دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يثبّته الله على الحق، أخرج الترمذي من حديث أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".
وأخرج الترمذي عَنْ رَجُلٍ مَنْ بَنِي حَنْظَلَةَ قَالَ صَحِبْتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ".
والثبات مطلوب من المؤمن في كل وقت ويتأكد وقت الفتن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فتنة الدجال أخرج مسلم في صحيحه من حديث عن النواس بن سمعان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينًا، وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا".
أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه; فمن أحب منكم أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه".
ولقد أثنى الله –سبحانه- على الثبات حتى في الجمادات فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24]، وإن الله -جل وعلا- ينزل الملائكة على المؤمنين ليثبتوهم على الحق ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12].
معاشر المؤمنين: إن الثبات مطلب شرعي يتحتم على المرء في كل حين خصوصًا مع تغير الزمن وقلة المعين على الطاعة، ولهذا يعظم أجر المسلم على ذلك، أخرج الترمذي من حديث عن أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"، قال أنس: "لو أن رجلاً أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في النكر، ولم يدرك ذلك السلف الصالح، فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم ليعوض أجرًا عظيمًا، وكذلك فكونوا إن شاء الله".
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، أقول قولي هذا..
الحمد لله رب العالمين….
أما بعد فيا أيها الناس: ونحن في هذا الزمن الذي أصبح المرء منا يتقلب في اليوم والليلة حري بنا أن نتناصح فيما بيننا بالثبات على الطاعة والورع والبعد عن الشبهات، وكذلك البعد عن اختلاف الرأي تحت ضغط الواقع، فنحن ولله الحمد ديننا واحد وعقيدتنا واحدة، فلِمَ التغير في الأحكام من تأثير الواقع إلى الأسهل باستمرار.
إن المسلم مأمور باتباع الحق متى تبين له، ولكن عن طريق الأدلة الشرعية لا عن طريق التشهي والضغط الأسري الذي يعيشه.
فكم من الأحكام كنا نعتقدها اعتقادًا جازمًا، وها نحن نرى اليوم من يطعن فيها ويفتي بخلافها، وسأضرب لكم أمثلة على ذلك.
ولكن قبل الأمثلة أقول: إن الثبات ممدوح إذا كان على الحق، وأما إن كان على الباطل فليس هذا بثبات، وإنما هو عناد وضلال، فمن كان على الخير ويزداد منه كل يوم فهذا الذي يوصى بالثبات ويدعى له بذلك.
وأما من كان على الضلال وله مبادئ سيئة؛ فهذا يُنصح بالتغيير إلى الخير وعدم التعصب لرأيه المنحرف عن الصراط المستقيم، ولنعلم أن الحق واضح، والسنة مشرقة لا خفاء فيها، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا -رحمكم الله-؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم اليوم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" اهـ.
أيها المسلمون: من الأمثلة التي تبين زعزعة الناس في ثوابتهم، وأنهم يتغيرون مع ضغط المجتمع الذي يعيشون فيه: تحريم الصور الفوتوغرافية، فقد أفتى فيه علماؤنا الكبار وعلى رأسهم سماحة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وكذلك اللجنة الدائمة للإفتاء، وعشنا على ذلك دهرًا طويلاً.
ولكن مع كثرة الصور وتطور التقنية الحديثة كالجوالات، تساهل بعض الخلق في التصوير، واستمعوا إلى بعض الفتاوى التي صدرت من صغار طلبة العلم فانقلب الوضع فأصبح القول بالجواز هو الأصل عند هؤلاء المتغيرين والتحريم طارئًا ومتشددًا، حتى أصبح الناس مع البرامج الجديدة يصوّر نفسه على جميع الأوضاع وفي كل الأحيان، وينشره للناس، حتى عباداته، ولا يخفى على الناس من حياته شيئا.
ومن الأمثلة كذلك القول بتحريم التأمين التجاري، فكم عشنا من السنين على التحريم بلا مخالف حتى صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء بالتحريم، واليوم نرى من يسقط هذا القول، ويقول بالجواز بأعذار وسبل واهية، وهو لا يشعر أن تغير الفتوى إنما هو بضغط من الواقع الذي يعيشه.
ومن الأمثلة كذلك: تحريم السفر بلا محرم، حتى ولو كان في الطائرة، ونسمع اليوم من يجوز ذلك، فيا سبحان الله! كم تأثر المتغيرات في العبد، فيتزعزع عن الحق وهو لا يشعر بالضغط الواقع عليه من المجتمع حوله.
ومن ذلك: تحريم آلات اللهو والغناء، ومن ذلك الطبل ونحوه في العرضات النجدية وما نحى نحوها، واليوم نسمع من يجوز ذلك
وكذلك حلق اللحية وتقصيرها، فكم عبث المقص في حلى كثير من أهل الخير بحجج واهية وتتبع للرخص، وكذا إسبال الثياب، واعدد ما شئت كذلك من الثوابت لدينا وهي في طرقها إلى التغير عند هؤلاء المترددين؛ كأمثال مسألة كشف الوجه، والتدخين، والسفر إلى بلاد الكفار، وقيادة المرأة، واختلاطها بالرجال في العمل والدراسة، وخروجها في وسائل الإعلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله: إن الصبر على الطاعة، والثبات على الحق من مهمات أولياء الله الذين لا ينظرون إلى الدنيا وشهواتها، ولا تغيرهم الأهواء، ألا فلنعتصم بحبل الله ولنتمسك بفتاوى علمائنا الذين لم يكونوا يتلونون في فتاويهم لضغط الواقع والمجتمع، ولا يتتبعون الرخص، بل يفتون بالحق بعد دراسة المسألة، ثم إنما هو الثبات على الحق لا غير.
معاشر المسلمين إن الثبات على الحق دليل كمال الإيمان وقوته، وحسن التوكل على الله، ودليل على قوة النفس، ورباطة الجأش، وبه ينتشر الحق ويزهق الباطل.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وعملاً صادقًا، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اللهم الثبات على الحق حتى الممات، اللهم أنج المستضعفين….
ربنا آتنا في الدنيا حسنة…