عناصر الخطبة
شهر رمضان المبارك شهر مُلئ بالمناسبات الطيبة التي يفتخر بها المسلمون على مر الأيام بالليل والنهار، فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، وهو شهر ليلة القدر، وشهر الانتصارات في الغزوات كبدر وفتح مكة وغيرهما.
وفتح مكة كان في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي إلى المدينة، وسببها أن صلح الحديبية أباح لكل قبيلة عربية أن تدخل في عقد رسول الله إن شاءت، أو تدخل في عقد قريش، فارتضت بنو بكر أن تدخل في عقد قريش، وارتضت قبيلة خزاعة أن تدخل في عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستعانت بنو بكر بأشراف قريش بعد العهد والعقد، ومكروا بخزاعة، وجاء الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام يجر رداءه وهو يقول: "لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر به نفسي"، وقال: "إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب، نصرة للمظلوم ووفاءً بالعهد".
وندمت قريش على ما بدر منها، فأرسلت أبا سفيان بن حرب معتذرًا، يلتمس الصفح من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهيهات فقد فات الأوان، وأخذ النبي العهد على نفسه لينصرنّ المظلوم من الظالم، وتكلم أبو سفيان مع النبي فلم يرد عليه؛ لأن المسألة قد تغيرت، والمواثيق قد حلت، وقريش وبنو بكر خانوا العهد.
ويظهر هنا موقف الاعتزاز بالعقيدة والإسلام، فهذا أبو بكر الصديق يرفض الوساطة لأبي سفيان، حيث جاءه طالبًا منه أن يكلم صاحبه في أن يغفر خطأهم، وأما عمر -وهو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل- لما أتاه أبو سفيان طلب منه أن يكلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له في موقف البراءة من المشركين والولاء لله والدين: "أأنا أشفع لكم إلى رسول الله؟! فوالله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به"، والله لو لم أجد في قتالكم إلا النمل لقاتلتكم بالنمل.
في موقف عمر الذي كان دائمًا جريئًا في الحق على الأعداء، أنه لا ينفع الصلح مع أعداء يبيّتون العداء، ولو سامحهم النبي ولم يذهب إليهم فاتحًا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ورجع أبو سفيان عائدًا إلى مكة يجر أذيال الخيبة.
وتجهز النبي للخروج لفتح مكة، وأمر بإخفاء الأمر؛ لتتوفر فيه المباغتة والمفاجأة كي لا تحدث قريش مقاومة، وليقل نزف الدم والقتل، ويظهر من أمر الكتمان هذا يظهر النبي بمظهر القائد العسكري، وهو المربي الروحي، وتتنوع التخصصات في ذات المصطفى في هذه الغزوة وفي سائر حياته، ودعا بدعائه المشهور: "اللهم خذ على أبصار قريش، فلا يروني إلا بغتة".
وحدثت الخيانة العظمى -كما يسمونها اليوم- من أحد الصحابة البدريين، وأراد أن يتقرب للمشركين من أجل أهله بمكة، فتجسس على المسلمين، وأرسل رسالته المحذّرة تحت شعر إحدى النساء، والتجسس لحساب الكفرة كفر إذا رأى المتجسس أفضليتهم على المؤمنين، وإن كان التجسس من باب الطمع المادي فهو كبيرة من أكبر الكبائر.
هذا ما كان من حاطب بن أبي بلتعة، وجاء الوحي من السماء محذرًا النبي بأن يدرك الأمر قبل فواته، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب -أي: بها امرأة تعمل لجاسوس-، فخذوه منها"، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا برسالة التجسس تقول: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء الاستدعاء، وحقق النبي بنفسه في هذه الخيانة: "يا حاطب: ما هذا؟!" فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضاءً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله بعد أن أنهى التحقيق مع المعترف التائب: "أما إنه قد صدقكم"، فقال عمر: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وأثبت الله إيمان حاطب، وعاتبه هو والذين يحبون المشركين، فقال -عز من قائل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة:1]، وخرج النبي بعد أن فشلت محاولة حاطب في سرية تامة.
خرج النبي مثل هذا الخروج قبل ثمان سنوات، خرج خائفًا يترقب، ومن ورائه قريش تطارده هو وصاحبه فقط، والآن يعود بعشرة آلاف نفس، أرواحها في أكفها، لا يريدون إلا وجه الله وطاعته. وهو في الطريق في ذلك الحشد العظيم يقع درس من دروسه -صلى الله عليه وسلم-، تلك الدروس والعظات التي ترسم لنا السير الصحيح لسلوك الطريق الطويل، ويظهر لون من ألوان العفو والمسامحة من الرسول العملاق، فقد كان ابن عمه وابن عمته من أشد الناس إيذاءً له بمكة، فلما نزل بالأبواء -وهو مكان بين مكة والمدينة- أتياه فأعرض عنهما، فأشار علي بن أبي طالب على ابن عمه وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، أشار عليه أن يأتيه من قبل وجهه، وأن يقول له ما قال إخوه يوسف: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ [يوسف:91]، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن جوابًا منه، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:92].
إن من أهم العبر في سيرة المصطفى أنه كان يرد السيئة بالحسنة، وكان يعفو عمن ظلمه، فهل تخلقنا بأخلاق الحبيب أم أننا نأخذ من هديه وسنته ما يتمشى مع هوانا ونترك ما نريد؟! إن موقف العفو هذا جعل من أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من أعظم رجالات الإسلام، ولو رد النبي اعتذاره إلى الأبد لدامت قطيعة وجفاء.
ومن مظاهر القيادة في الحرب والدقة في المحافظة على معنويات الجيش أمر النبي جيشه بالفطر؛ ليأخذوا بالرخصة، وليتقووا بالإفطار، فإن وراءهم فتح أم القرى، وخرجت دوريات التفتيش تحوط الجيش من جهاته كلها، وعثروا على أبي سفيان بن حرب في رجال معه، وغدا عم النبي العباس، غدا بصديقه أبي سفيان إلى رسول الله فقال له: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!"، فقال له أبو سفيان مندهشًا منبهرًا بحسن المعاملة وبطيب الكلام: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أمّا هذه -والله- فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
إن أمثال أبي سفيان لا ينفع معهم الخطاب الديني أو الكلام الرقيق، إنه صنف من الناس عاش في حب الجاه والفخر والخيلاء، ولا يؤثر فيه إلا مظهر من مظاهر الشوكة والعنف، وهكذا كانت نفسه قبل أن يدخل في دين الله، فقد ثبت من غزوة فتح مكة مشهد من مشاهد النبي السياسي، عرفنا قبل قليل موقف النبي العسكري إن صح التعبير، والآن يظهر موقف من مواقف سياسته فيقول: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
ومرت القوات العسكرية أمام أبي سفيان، ومن بين الكتائب، تمر به كتيبة مسلحة، لا يظهر من السلاح إلا العينان، كان أبو سفيان قبل هذه الكتيبة المرعبة يلحقه الشك، ولكن الرعب ملأ قلبه، وقال للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟! فإنه ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، فقال له العباس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، وقال قولته المشهورة: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا، فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذًا.
ففي هذا الأثر ترون أن أبا سفيان لم يتأثر بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟!"، ووقع تحت تأثير القوة والسلاح بالقناعة والرضا، ليعلم المؤمنون أن لا إسلام إلا بقوة وعزة.
وتقدم رسول الله حتى وصل لذي طوى، فوقف على راحلته متواضعًا، وإنه ليضع رأسه ويطأطئه حتى يكاد يمس واسطة الرحل، دخل الحرم متواضعًا وهو الفاتح العظيم صاحب الجيش العظيم، دخل مكة وهو يقرأ: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر].
تواضع في موقف العزة والنصر، وما أخذته نشوة الفرح بالكبر والبطر والخيلاء، وحاشاه -عليه الصلاة والسلام-، بل صاحب تواضعه تلاوة القرآن، ذاكرًا لله خاشعًا، وهكذا كانت حياته كلها -صلى الله عليه وسلم-.
هلاّ تواضعنا لله، وهلاّ تواضعنا لخلق الله ونزعنا رداء العجب والفخر، إذ المطلوب منك -أيها المؤمن- أن تعطف وترحم المساكين، وأن تصل رحمك والوالدين، وأن تغض الطرف عن إساءة المسيئين، وتسامح المذنبين، وتأتسي بسيد العالمين -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
ودخل مكة متجهًا إلى البيت، دخل بعد أن استسلم سادتها وأتباعهم، وعلت كلمة الله في جنباتها، وسقط ثلاثمائة وستون صنمًا تحيط بالكعبة، بعد أن أخذ يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا"، فوقعت على الأرض ترابًا وأحجارًا، وكانت قبل قليل آلهة تعبد من دون الله.
وكان داخل الكعبة آلهة وصور، فرفض أن يدخلها حتى أخرجت الآلهة ومحيت الصور، ويظهر هنا موقف من مواقف نصر الله عظيم، ذلك الموقف هو صعود بلال فوق ظهر الكعبة يؤذن للصلاة، فأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، هنا نتذكر بلالاً المطمور تحت صخور الظهيرة والحر الشديد، وهو يعذب ويوطأ بالأقدام على أن يذكر الآلهة بخير، وما يزيد على قول: أحد أحد، إنه وعد الله أن ينصر من ينصر دينه، فلما أبى بلال أن يذكر إلا الله، كذلك أبى الله إلا أن يطأ بلالُ بقدميه المتشققتين في سبيل الله، أن يطأ ظهر بيت الله مناديًا: الله أكبر.
هذا النداء ﴿الله أكبر﴾ الذي طالما رفضته مكة وهي مخيرة مالكة لعزتها وقوتها، وأبى الله إلا أن يتم نوره، ويدخل الناس في دينه أفواجًا، بعد أن طهر النبي البيت من رجس الأوثان خطب في حشود المنتصرين من الصحابة الكرام والمنهزمين من أولاد الطلقاء، خطب فيهم خطبة المنتصر، خطبة تمثل أروع موقف من مواقف العفو ودفن الجاهلية، الجاهلية بدمها ومالها وفخرها بالآباء، الجاهلية التي تبيح الحرام متى شاءت، وتحرمه متى شاءت، الجاهلية التي تنقص من قدر النساء وتهضم حقهن.
مما جاء في تلك الخطبة المباركة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وهذا موقف آخر من مواقف الرحمة والعفو: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، سامحهم وهم الظالمون، وعفا عنهم وهم المجرمون، لطالما آذوه باليد واللسان، فهل عفوتم عن إخوانكم وسامحتموهم؟! وهل اتبعنا الرسول في مسامحته لمن آذاه من المشركين، وأن نفتح مع جميع المسلمين صفحة جديدة بيضاء، ننسى معها الخصام والتشاجر والحقد والبغضاء؟!
ليس من الإسلام أن نقطع ما وصل الله، أو نبغض من أمرنا الله بحبهم ووصلهم، هذه حقيقة الدين، وهذه مواصفات أهله، ومن ملأ صدره بالكُره وسوء الطوية فليس له من صلاته إلا المظاهر، وليس له من الإسلام إلا الاسم.
إن صلاح القلوب هو الأساس لصلاح الأعمال، فأضمروا الحب والرحمة، وأظهروا الابتسامة والفرحة، وارم نفسك على إخوانك ببدنك ومالك ووقتك، وكن أخًا للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام.