عناصر الخطبة
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون: يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18].
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما: "حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَالَ: «بَلَى». فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ قَالَ «بَلَى». قَالَ فَعَلَى مَا نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ «ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا».
فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ».
إخوة الإسلام: في العام السادس للهجرة أراد الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- العمرة مع أصحابه، وذلك عندما رأى رؤيا أنه سيدخل مكةَ، ويطوف حول البيت، ويعتمر، فقصَّ الرؤيا على أصحابه فاستبشروا خيرًا، وجهَّزوا أنفسهم للإقبال على البيت والوطن؛ فقد طالت فترةُ البُعد، وزاد الاشتياقُ،
وقد وصلت الأخبار بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى مكة، فأبت قريشٌ أن تسمح للنبيِّ وأصحابه بأداء العمرة، وهذا الفعل يُعَدُّ جريمة كبرى في عُرْف العرب؛ إذ كيف يُصَدُّ عن البيت الحرام من جاء معظِّمًا له؟!
وحدثت مناوشاتٌ كلامية، بل وصل الأمر إلى الالتحام بالمسلمين والتحرش بهم من قِبَل عصابة من قريش، فقُبِض عليهم، وأرسلت قريش الرسلَ إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى تم الاتفاقُ على معاهدة، عُرِفت في تاريخ السير ب-"صلح الحديبية".
ونص الصلحُ على أن تضع الحربُ أوزارَها عشر سنين، يأمن فيها الناسُ، ويكفُّ بعضُهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريشٍ بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممَّن مع محمدٍ لم يردُّوه عليه، وأنه مَن أحَب أن يدخل في عقد محمدٍ وعهده دخَل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنَّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتَها بأصحابك فأقمتَ فيها ثلاثًا، وأصاب الصحابةَ مِن توقيع هذا الصلح همٌّ وغمٌّ، وظنوا أنهم قد بُخِسوا حقَّهم.
وتعاظم الأمرُ في نفوس الصحابة، ورأوا أن ذلك رضا بالدُّون إلى حدِّ أنهم عندما أمرَهم -صلى الله عليه وسلم- بأن ينحَروا ويحلِقوا ويتحللوا، لم يُجِبْه أحدٌ إلى ذلك، ففي صحيح البخاري قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا». قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا".
أيها المسلمون: وإن حادثةَ صلح الحديبية فيها من الدروس والعِبَر ما يعجِزُ مداد الحبر عن إحصائه، ولكن نقف على بعض الدروس لنستلهم منها العبر، فمن الدروس والعبر:
وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والانقياد والتسليم لأمره، فعمر -رضي الله عنه- وبعض الصحابة كرهوا هذا الصلح، ورأوا في شروطه الظلم والإجحاف بالمسلمين، لكنهم ندموا على ذلك، وظلت تلك الحادثة درسًا لهم فيما استقبلوا من حياتهم، فكان سهل بن حنيف -رضي الله عنه- يقول: "اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرددته"..
وبقي عمر -رضي الله عنه- زمنًا طويلاً متخوفًا أن ينزل الله به عقابًا لما قاله يوم الحديبية، وكان يقول: "فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ". وهو القائل -رضي الله عنه- بعد ذلك وهو يقبل الحجر الأسود: ففي صحيح البخاري عَنْ عُمَرَ – رضى الله عنه – أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ".
فتعلم الصحابة من صلح الحديبية وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والانقياد لأمره وإن خالف ذلك العقول والنفوس، ففي طاعته -صلى الله عليه وسلم- الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وإن قصر العقل عن إدراك غايته وعاقبة أمره..
وفي هذا الصلح المبارك ظهرت أهمية الشورى، ومكانة المرأة في الإسلام، وأهمية القدوة العملية في موقف واحد.
روى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم – رضي الله عنهما – قصة صلح الحديبية في حديث طويل، ذكر فيه أنه لما تم الصلح بين النبي- -صلى الله عليه وسلم- ومشركي قريش قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْكِتَابِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ – قَالَ – فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْحَرُوا وَاحْلِقُوا».
قَالَ فَمَا قَامَ أَحَدٌ – قَالَ – ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا فَمَا قَامَ رَجُلٌ ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا فَمَا قَامَ رَجُلٌ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ «يَا أُمَّ سَلَمَةَ مَا شَأْنُ النَّاس؟». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ دَخَلَهُمْ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَلاَ تُكَلِّمَنَّ مِنْهُمْ إِنْسَاناً وَاعْمِدْ إِلَى هَدْيِكَ حَيْثُ كَانَ فَانْحَرْهُ وَاحْلِقْ، فَلَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يُكَلِّمُ أَحَداً حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَهُ ثُمَّ جَلَسَ فَحَلَقَ فَقَامَ النَّاسُ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ".
فكان رأي أم سلمة -رضي الله عنها- رأياً موفقا ومشورة مباركة.
وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة مادامت ذات فكر صائب ورأي سديد، كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة، طالما أنها مشورة صائبة،
فالشورى سلوك ينظم الحياة والأسرة في كل شؤونها، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى:38].
وفي قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمشورة زوجته أم سلمة تكريم للمرأة، التي يزعم أعداء الإسلام أن الإسلام لم يعطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل، ويعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشورتها لحل مشكلة واجهته في حياته.
وفي هذا الموقف أيضًا التأكيد على أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أمر وكرره، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما أقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة -رضي الله عنها- تحقق المراد، فالقدوة العملية أجدى وأنفع، خاصة في مثل هذه المواقف..
ومن الفوائد المهمة من صلح الحديبية أن المشركين وأهل الفجور، إذا طلبوا أمراً يعظِّمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أُجيبوا إليه وأُعطوه وأُعينوا عليه، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، قال الزهري: وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري: قَالَ: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
وظهر في صلح الحديبية مدى حب الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يعبر عن ذلك عروة في قوله لقومه كما في البخاري: "فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ".
ومن الحكم الباهرة من صلح الحديبية أنه كان بابا ومفتاحا لفتح مكة. ولئن لم ينتبه المسلمون لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائب عنهم، فقد اختلط المسلمون بالكفار – بعد عقد الصلح – وهم في أمان، ودعوهم إلى الله، وأسمعوهم القرآن، ولم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ودخل في سنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك بل أكثر.. فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة بعد عامين في عشرة آلاف، وهذا ما بشر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أثناء رجوعه إلى المدينة بعد عقد المعاهدة والصلح، حينما قال: فَقَالَ «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾[الفتح:1] (صحيح البخاري).
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية".
فإن عرض الإسلام والدعوة إليه في جو من الهدوء والأمان، وحرية الحوار بالحجة والكلمة الطيبة، كان له أبلغ الأثر، وذلك لأن الحق له قوة يظهر بها على الباطل، فإذا أحسن العرض والدعوة إليه، واختير القول والوقت المناسب، وكان الداعية عالما بما يدعو له، حكيما في دعوته، كانت النتائج أعظم..
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون: ولقد كان في الغزوةِ من الآياتِ الباهراتِ ومنها: أن الصحابةَ -رضي الله عنهم- اشتكَوْا إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قلةَ الماءِ، وكان بين يدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إناءٌ صغيرٌ، يتوضأُ منه، فوضع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدَه في الإناءِ، فجعل الماءُ يفورُ من بينِ أصابعِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كأمثالِ العيونِ، فشرِبَ الصحابةُ رضي الله عنهم وتوضؤوا.
ومن الفوائدِ: تمامُ الانقيادِ لله ورسولِه، وهذا من أعظمِ دروسِ هذه الواقعةِ، فينبغي للمؤمنِ أن يسلِّم للهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال اللهُ تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَ-دْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب: 36].
وليعلمَ المؤمنُ أنه مهما بدا له أن الخيرَ في غيرِ مرادِ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، فإنما ذلك خيالٌ كاذبٌ، ووساوسُ من الشيطان.
أيها المسلمون: وكان صلح الحديبية فتحًا مبينًا كما بيَّن ربنا – تعالى -: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1]، وتحققت نتائج صلح الحديبية التي كانت في صالح المؤمنين، والتي من أهمها:
– اعتراف قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة؛ فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين نِدَّين، وكان لهذا الاعتراف أثرُه في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش؛ حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
– دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقَّن الكثير منهم من غلبة الإسلام، وقد تجلَّت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير منهم إلى الإسلام، مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلُّفهم.
– أعطت الهدنة فرصةً لنشر الإسلام، وتعريف الناس به؛ ممَّا أدى إلى دخول كثيرٍ من القبائل فيه.
– أمِن المسلمون جانب قريش، فحولوا ثقلهم إلى اليهود ومَن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوةُ خيبرَ بعد صُلح الحديبية.
– مفاوضات الصلح جعَلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحليس بن علقمة عندما رأى المسلمين يُلَبُّون رجَع إلى أصحابه قال: "لقد رأيت البُدْنَ قد قُلِّدت وأُشعرت، فما أرى أن يُصَدوا عن البيت".
– مكَّن صلحُ الحديبية النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوةً جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
– ساعد صلحُ الحديبية النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- على إرسالِ رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
– كان صلحُ الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنةُ مقدِّمةً بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز اللهُ به رسوله وجندَه، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطِّئَ لها بين يديها بمقدِّمات تؤذنُ لها وتدل عليها.
وهكذا كان صلح الحديبية غنيا بالدروس والحِكَم والعبر، التي ينبغي للمسمين الوقوف معها والاستفادة منها في واقعنا ومستقبلنا كأفراد ومجتمعات …
وصلوا وسلموا ..