عناصر الخطبة
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا علم اليقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه، بكل ما يستطيعون: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوهِهِمْ وَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ) [الصف:8]، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتابنا وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
كل العدا قد جنـدوا طاقاتهـم *** ضـد الـهدى والنور ضـد الرفعة إسـلامنا هو درعنـا وسلاحنا *** ومنـارنا عبـر الدجى في الظلمـة هو بالعقيدة رافـع أعـلامـه *** فامشي بظـل لوائهـا يــا أمتي لا العـرب يقصد عزنا كلا ولا *** شـرق التحـلل إنــه كالحيـة الكل يقصـد ذلنا وهواننــا *** أفغيـر ربـي منقـذ مـن شـدة
إخوة الإيمان: يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يتحسر يوم يجد البون شاسعًا والفرق عظيمًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، وقد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودًا والعود أحمد، عودًا سريعًا إلى الماضي المجيد، لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودًا لسيرة من لم تطرق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يومًا من أيام محمد -صلى الله عليه وسلم-، لنأخذ العبر والدروس، نعود بكم إلى شهر رجبَ في السنة التاسعة من الهجرة؛ لنعيش وإياكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذل فيها الكافرون، وعزَّ فيها الصادقون.
إخوة الإيمان: بلغ النبي أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون، فها هو أحدهم يقول له رسول الله كما روى ابن هشام: "هل لك في جلاد بني الأصفر؟!" أي الروم. فيقول: يا رسول الله: ائذن لي ولا تَفْتنَّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه. ولكن الله -جل وعلا- فضحه وأذله: (وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِلْكَـافِرِينَ) [التوبة:49].
وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة وتحجج بحجج واهية، حين آثروا ظل القعود في بيوتهم وحقولهم على حر الصحراء ووعثاء السفر، مقابل الجلاء: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَـاهِدُواْ بِأَمْولِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)، وتجلّت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان بن عفان، سبق في بذله سبقًا بعيدًا، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عجب من كثرة ما أنفق وقال: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم". رواه الحاكم وصححه الألباني.
ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زادًا ولا راحلة، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: يا رسول الله: لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، إنهم بكاؤون لم يبكوا على فقد متاع أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد وقتال في ساعةٍ عسيرة، قد تذهب أرواحهم فداءً لهذا الدين الذي آمنوا به، عن علبة بن زيد: أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو حد أو عرض". وأصبح الرجل على عادته مع الناس، فقال رسول الله: "أين المتصدق هذه الليلة؟!"، فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق هذه الليلة؟! فليقم"، فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله: "أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة". حديث صحيح صححه الألباني.
ويخرج ويستخلف على المدينة عليًّا، ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفًا، ويأتي المنافقون المخلفون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، ويستهزئون به، والله يستهزئ بهم، يأتون إلى عليٍّ ويقولون له ما خلفك رسول الله إلا استثقالاً لك، فتأثر بذلك ولبس درعه وشهر سيفه يريد الجهاد في سبيل الله ويصل إلى النبي ويقول له زعمهم، فيجيبهم يقول: "كذبوا يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وعاد -رضي الله عنه- إلى المدينة راضيًا.
ويتوجه إلى تبوك فيمر بديار ثمود، ديارٍ غَضِبَ اللهُ على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطلة، وأشجارهم مقطعة، فيدخلها وقد غطى وجهه وهو يبكي، ويقول لجيشه: "لا تدخلوها إلا باكين أو متباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم".
انظروا -يا عباد الله- كيف فعل الله بهذه الأرض وأهلها التي سكنها الظلمة، فكيف بمن يجالس الظَلَمة، ويؤيد الظَلَمة، ويركن إلى الظلمة، ويكون لهم أنيسًا ولسانًا وصاحبًا، فكيف تكون حاله؟! ألا يخاف غضب الله عليه ونقمته حين يأخذه أخذ عزيز مقتدر: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود:113]، حتى الماء في هذه الأرض نهى المسلمين عنه حينما استقوا منه فقال لهم: "لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عجنتم من عجين بمائها فأعطوه الإبل ولا تأخذوا منه شيئًا".
واستمر في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغًا عظيمًا، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته حتى يكاد يسقط، كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده، حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: "من هذا؟!"، قال: أنا أبو قتادة، فقال له: "حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة". يقول المؤرخون: فما زال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله، وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا. درسٌ لمن حفظ أولياء الله فإن الله يحفظه، و"صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة؟! فقال عمر: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله: إن الله عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: "أو تحب ذلك؟!"، قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. حسن هذا الألباني.
ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل، فماذا فعل يا ترى؟! لقد ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين ويقول: يا رسول الله: رجل يمشي إلى الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "كن أبا ذر، كن أبا ذر"، فإذا هو أبو ذر؛ فأخبروا النبي بذلك، فقال: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
وتمضي الأيام والأعوام ونُفِي أبو ذر إلى الربذة ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه، ويضعاه على الطريق، وأن يقولا لأول ركب يمرّ بهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه، فيفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون، فما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، فأخبرهم غلامه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكيًا يقول: صدق رسول الله: "تمشي وحدك، وتموت وحدك". ثم دفنوه.
إخوة الإيمان: وينتهي المسير برسول الله إلى تبوك، ويقيم بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدًا أو يواجهوا عدوًا، ولكنهم بذلك أرهبوا الروم وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية، وحصلت الأحداث أثناء بقائه -عليه الصلاة والسلام- فيها، منها أنه لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل -عليه السلام- وقال: يا رسول الله: قم صل صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثي، فقد توفي بالمدينة.
أما معاوية هذا -إخوة الإيمان- فهو صالح عابد يذكر الله قائمًا وقاعدًا، وسأل عنه النبي فأُخْبِر أنه كان يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ قائمًا، وقاعدًا، وعلى جنب، بالليل والنهار، وقد صُلِّي عليه بالمدينة، وشهد الصلاة عليه صفَّان من الملائكة، في كل صفٍ سبعون ألف ملك، فقام وصلى عليه.
وحدث عبد الله بن مسعود فقال: نمنا ليلة متعبين في تبوك وانتبهت في وسط الليل، فالتفتُّ إلى فراش النبي فلم أجده، والى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما، فإذا رسول الله حفر قبرًا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر، فقلت: يا رسول الله: من الميت؟! قال: "هذا أخوك عبد لله ذو البجادين". إنه أحد الصحابة أسلم، وكان تاجرًا، فأخذ أهلُه وقومُه مالَه كله حتى لباسه، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة قطعها إلى بجادين، وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر بخبره، فقال: "تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارًا ورداءً في الجنة، أنت ذو البجادين"، فلُقِّب بذلك.
يقول عبد الله بن مسعود: وأنزله إلى القبر، فوالذي لا إله إلا هو ما نسيت قوله وهو في القبر وقد مد ذراعيه لذي البجادين وهو يقول لأبي بكر وعمر: "أدنيا إليَّ أخاكما، فدلياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف -عليه الصلاة والسلام- لما وضعه في القبر رافعًا يديه مستقبلاً القبلة، وهو يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه"، يقول ابن مسعود: "فوالله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه".
وغزوة تبوك مشابهة لغزوة الأحزاب، فإن بلاء المسلمين أولها كان شديدًا ثم حال ختامها طمأنينة وعزًّا. وقفل النبي -صلى الله عليه وسلم- عائدًا إلى المدينة موفورًا منصورًا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد، فقال: هذه طابة، وهذا أُحد يحبنا ونحبه، وتسامع الناس بمقدمه، وفرح النساء والصبيان وهم يقولون:
طـلع البـدر علينا *** من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا *** مـا دعـا لله داع
وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم، روى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله رجع من عزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: "إن في المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"؛ فقالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟! قال: "وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر".
بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي الرجال الذين شيّعوه بقلوبهم، وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم، وأراح همًّا ثقيلاً عن أفئدتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُم بِلْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ) [التوبة:38، 39].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت فما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عبرة وعظة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنيًا بالماضي، وسرد الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئًا، وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، حتى إذا ما تركت الجهاد ضُربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهادًا في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنصره عليه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ [الحج:40].
ومن هذه الدروس أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ) [التوبة:47].
ومن الدروس: أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة، ثم يكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويتعلقوا به ويصبروا، وعندها ينصرون، فها هو عبد الله بن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".
ومنها: أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه حتى لا يكفي حق بلا قوة.
دعـا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَبْ *** وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسـيف صلت بكـفه *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أن تمكُّن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما حادت عن عقيدتها وتعلَّقت بغيرها، إلا تقلَّبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
هذه تبوك غزوة العسرة، وهذه دروسها، فاعتبروا بها -عباد الله- وتدبروها.