عناصر الخطبة
إن الحمد لله…
أما بعد:
أيها المسلمون: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا -أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح". رواه البخاري. وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "عليكم بالهيِّن الليِّن الذي إذا ظُلم لم يَظْلِم، وإذا أُسيء إليه غفر، وإذا قُطِعَ وَصَل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين: عامر بن الجراح". وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "غيّرتنا الدنيا كلنا، غيرك يا أبا عبيدة". وقال: "إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته".
هو أبو عبيدة، عامر بن عبد الله بن الجرّاح، القرشي الفهري المكي، أحد السابقين الأولين، اشتهر بكنيته والنسبة إلى جده، فيقال: أبو عبيدة بن الجراح، ويجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عند فهر بن مالك. شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وسمَّاه أمين الأمة، ومناقبه شهيرة جمَّة.
كان وَضِيءَ الوجْهِ، بَهِيَّ الطَّلْعةِ، نَحِيلَ الجِسْم، معروق الوجه، خفيف اللحية، طَويل اَلْقَامَةِ، أثرم الثنيتين، يخضّب بالحناء والكتم، وكان له عقيصتان، تَرْتاحُ العينُ لمرآه، وَتَأنَسُ النَّفْسُ لِلُقْيَاهُ، ويطمئِنُّ إِليه الفؤادُ، وكان -إِلى ذلك- رقيقَ الحاشِيَةِ، جَمَّ التَّوَاضُع، شديدَ الحياءِ، لكنَّه كان إِذا حَزَبَ الأمْرُ، وَجَدَّ الجِدُّ، يَغْدُو كَأنهُ الَّليْثُ عادِيًا.
أيها المسلمون: إذا رجعنا إلى تاريخ الجاهليين من عرب وعجم، فإننا لا نجد فيه إلا ترجمة قائد، أو ملك، أو شاعر، أو فيلسوف، فأين تراجم الذين أعانوا الملِك في بناء مُلكه؟! وأين الجنود الذين خاضوا المعارك ودافعوا عن حياض القبيلة أو السلطان؟! وأين الذين حفظوا قصائد الشاعر وتغنّوا بها؟! وأين تلامذة الفيلسوف الذين تأثروا بفكره؟! لا نجد أحدًا من هؤلاء الأتباع والأصحاب، فإذا دخلنا إلى ديار الإسلام لنسأل عمن أسسوا البناء ورفعوا قواعده، فإننا نجد آلافًا من التراجم للرجال والنساء، قد ذُكر لكل واحد جهده في إقامة الدولة الإسلامية، وحُفظ لكل من أسهم حظه من الذكر. إنه لم يُحْصَ في تاريخ البشرية أصحاب نبيّ أو زعيم، كما أحصي أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-. هؤلاء الصحابة الذين كتب الله لهم شرف الصحبة، وخلود الذكر الحسن، بما عملوا في سبيل الدعوة وبما فقهوا، منهم من قضى نحبه في العهد النبوي، ومنهم من بقي ينتظر، وما بدلوا تبديلاً. وأبو عبيدة عامر بن الجراح من هؤلاء الرجال، الذين أجبروا التاريخ على تدوين وجودهم، وإذاعة مناقبهم، وكانت ولادة هذا الوجود في الإسلام وبالإسلام.
لقد عاش أبو عبيدة ما يقرب من نصف عمره في الجاهلية، فلم نجد في مدونات التاريخ ما يدل على حياته ووجوده، فلما أسلم بزغ نجمه وذاع اسمه، وعلا صيته، ووجدنا التاريخ يسعى وراءه ويتتبع خطواته، ولم تذكر المصادر التاريخية شيئًا عن نشاط أبي عبيدة في الجاهلية، فبدأ تأريخ حياته يوم إسلامه.
نقل ابن هشام وغيره أنه أسلم قبل أن يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم ابن أبي الأرقم، وهذا يعني أن أبا عبيدة رافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة حوالي عشرة أعوام، ثم هاجر إلى المدينة، وصاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة عشر سنوات، لم يكن يشغله عن حضور مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا خروجه في سرية يغيب فيها عن المدينة أسبوعًا أو شهرًا، وهذا يدل على أنه استوعب السنة القولية والعملية، وعُد ممن جمعوا القرآن وحفظوه.
ويشهد لسعة علمه بالسنة والكتاب، أنه لما جاء وفد نجران من اليمن مسلمين، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث معهم من يعلّمهم القرآن والسنة والإسلام، قال لهم رسول الله: "لأبعثنّ معكم رجلا أمينًا، حق أمين، حق أمين، حق أمين". وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتمنّى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه. يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ما أحببت الإمارة قط، حبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجّرًا، فلما صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر، سلّم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. فذهب بها أبو عبيدة! إن هذه الواقعة لا تعني أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره، إنما تعني أنه كان واحدًا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم.
وقد عاش أبو عبيدة في الإسلام مدتين: مدة الصحبة في الحياة النبوية، ومدة ما بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، أيام الخلافة الراشدة.
عاش أبو عُبيدةَ تَجْرِبَةَ المسلمين القاسِيَةَ في مكَّةَ مُنْذُ بِدايتها إلى نِهايتها، وعانى مع المسلمين السَّابقين من عُنْفِها وَضَراوَتِها وَآلامِها وأحْزانِها ما لم يُعَانِهِ أتباع دين على ظَهْرِ الأرض، فَثَبَتَ للابْتِلاءِ، وصَدَق اللّه ورسولَه في كل مَوْقِف.
هاجر أبو عبيدة إلى أرض الحبشة فيمن هاجروا إليها من المسلمين، إلا أنه لم يُطِل المُكْث بها، فقد عاد إلى مكة مرة أخرى، ثم هاجر إلى المدينة بعد ذلك، ونزل على كلثوم بن الهدْم الأوسي، وبعد وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دار الهجرة، آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة.
أيها المسلمون: لقد أمضى أبو عبيدة حياته مجاهدًا في سبيل الله، ومات في أرض الفتوح، فقد حضر أبو عبيدة عزوة بدر الكبرى، وأبلى مع غيره من المهاجرين والأنصار بلاءً حسنًا، وأكثر ما ظهرت قوة العقيدة في لقاء المهاجرين بأهل مكة المشركين، فعامة المهاجرين من قريش، وجلُّ جيش مكة من قريش، وبين هؤلاء وهؤلاء قرابة ونسب ورحم، وربما كان الأب في جيش والابن في جيش آخر، وكان الأخ كافرًا وشقيقه مسلمًا، والخال مع المشركين وابن الأخت مع المسلمين. والتقى الفريقان في المعركة، وقُتل من قُتل من المشركين القرشيين بأيدي المسلمين القرشيين.
وحضر غزوة أحد، وكان من الذين ثبتوا في ميدان المعركة عندما كانت النكسة، وكان من المدافعين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونزع يوم أحد الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنة رسول الله بثنيّتيه، فانقلعت ثنيّتاه؛ عن عائشة قالت: سمعت أبا بكر يقول: لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانًا، فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بدرني فقال: أقسِمُ عليك أنْ تَتْرُكَ ذلك لي، فَتَركَه، فَخَشيَ أبو عُبيدَة إنِ اقْتَلَعَهُما بيدِه أنْ يُؤلِمَ رسولَ اللّهِ، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّته عَضًّا قَوِيًّا مُحْكَمًا فاسْتَخْرَجَها ووَقَعَتْ ثَنِيّتهُ، ثُمَّ عَضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتهِ الثانية، فاقتلعها، فسقطت ثنيَّته الثانية. قال أبو بكر: "فكان أبو عُبَيْدَةَ من أَّحْسَن النَّاسِ هَتَمًا.
وبعث -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قِبَل الساحل ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجُمع، فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف، فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية، فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن. يقول جابر -رضي الله عنه- أحد أفراد هذه السرية: "كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل". وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا -رضي الله عنه-: ما تغني عنكم تمرة؟! فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر -رضي الله عنه-: وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله، فسمى ذلك الجيش جيش الخبط.
وقد أثّر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- أحد جنود هذه السرية الشجاعة، وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ. ويصف لنا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه، فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة؟! ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمنَّا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ونقتطع منه قطعة اللحم قدر الثور، فلقد أخذ منّا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحّل أعظمَ بعير معنا فمرّ من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما حبسكم؟!". قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟!"، قال: فأرسلنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه فأكله.
قصة عجيبة، وكرامة من الله تعالى لجنوده في سبيل الله، نلحظ في هذه القصة: أن المسلمين في هذه السرية بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التمرة الواحدة طعام الرجل طوال يوم كامل في سفر ومشقة، ويمرون -وهم على تلك الحال من فقد التمر وأكل الخبط- على الجهني الذي اشترى منه قيس أو على قومه، فما يخطر بفكرهم أن يُغِيروا عليهم لينتزعوا منهم طعامهم، كما كانت الحال في الجاهلية؛ لأنهم اليوم ينطلقون بدين الله الذي جاء ليحفظ على الناس أموالهم في جملة ما حفظ، وهم اليوم يفرقون بين الحلال والحرام الذي تعلَّموه من منهج رب العالمين. وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وفي السنن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا وموقوفًا: "أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال".
امتزجت ترجمة أبي عبيدة بتاريخ الشام، فإذا قيل: فتح الشام، تبادر إلى الذهن أبو عبيدة، وإذا ذكر أبو عبيدة قفز إلى الذاكرة تاريخ بلاد الشام، ويذكر من مناقبه بعد وصفه بأنه أمين هذه الأمة، أنه فاتح الديار الشامية، وفاتح القدس الشريف.
لقد تم فتح الشام كله على يد أبي عبيدة، وكتب أبو عبيدة عهود الصلح مع القرى والمدن على غير مثال سابق ولا سنة سابقة، فليس في القرآن مما يتصل بأهل الكتاب، إلا أخذ الجزية منهم إذا بقوا على دينهم، فلما فتح المسلمون الشام، اجتهدوا في شروط الصلح، ووضعوا نظامًا عُدّ سُنَّة لما بعده من الفتوح، وعمل به المسلمون في العصور التالية.
روى الحاكم وابن سعد أن عمر بن الخطاب قال لجلسائه يومًا: تمنَّوا، فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح.
وعن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: بلغ عمرَ أن أبا عبيدة حُصِرَ بالشام، ونال منه العدو، فكتب إليه عمر: أما بعد: فإنه ما نزل بعبد مؤمنٍ شدة، إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لا يغلبُ عسرٌ يُسرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ [آل عمران: 200]، قال: فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد: فإن الله يقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾ [الحديد: 20]. قال: فخرج عمرُ بكتابه، فقرأه على المنبر، فقال: يا أهل المدينة: إنما يُعرّض بكم أبو عبيدة أو بي، ارغبوا في الجهاد.
ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه: أين أخي؟! فيقولون: من؟! فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح، ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر، ثم يصحبه إلى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئًا، لا يجد إلا سيفه وترسه ورحله. ويسأله عمر وهو يبتسم: "ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس". فيجيبه أبو عبيدة: "يا أمير المؤمنين: هذا يبلّغني المقيل".
نفعني الله وإياكم…
الحمد لله…
أما بعد: لما فشا الطاعون في بلاد الشام وبلغ ذلك عمر، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: سلام عليك، أما بعد: إِنِّي بَدَتْ لي إليك حاجَةٌ لا غِنى لي عَنْكَ فيها، فإن أتاكَ كتابي ليلاً فَإِنِّي أعْزِم عليك ألا تُصبِحَ حتى تركبَ إليَّ، وإن أتاك نهارًا فإنِّي أعْزِمُ عليك ألا تُمسي حَتَّى تَرْكَبَ إِليَّ. فلما أخَذَ أبو عُبيدَة كتابَ الفاروق قال: قد عَلِمْتُ حَاجَةَ أميرِ المؤمنين إِليَّ، فهو يريدُ أن يَسْتَبْقِىَ مَنْ ليْس بِباقٍ، ثم كَتَبَ إليه يقول: يا أمير المؤمنين! إني قد عرفتُ حاجتك إليّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه، فإذا أتاك كتابي هذا فحللني من عزمتك -يا أمير المؤمنين-، وائذن لي بالبقاء ودعني في جندي. فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه، فقال له مَنْ عِنْدَهُ لِشِدَّةِ ما رأوْه من بكائِه: أماتَ أبو عُبيدَةَ يا أميرَ المؤمنين؟! فقال: لا، ولكِنَّ الموتَ منه قريب. ولم يَكْذِبْ ظَنُّ الفاروق؛ إذْ ما لبثَ أبو عُبيدَة أن أصيبَ بالطَّاعون.
عن عروة قال: إن وجع عمواس كان معافى منه أبو عبيدة وأهله، فقال: اللهم نصيبك في آل أبي عبيدة!! فخرجت منه بثرة، فجعل ينظر إليها، فقيل: إنها ليست بشيء، فقال: إني لأرجو أن يبارك الله فيها. وقد قام قبل أن يصاب في الناس خطيبًا فقال: أيها الناس: إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيده يسأل الله أن يقسم له منه حظًّا.
ولما طُعن دعا المسلمين فدخلوا عليه، فقال لهم: إني موصيكم بوصية، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم، وبعدمها تهلكون: "أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا، وتصدقوا، وحجوا، واعتمروا، وتواصلوا، وتحابوا، واصدقوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأً لو عُمّر ألف حول ما كان له بد أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون. إن الله قد كتب الموت على بني آدم، فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم لمعاده". ثم قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ: صلّ بالناس. فصلى معاذ بهم، ومات أبو عبيدة، فقام معاذ في الناس: "يا أيها الناس: توبوا إلى الله توبة نصوحًا، فإن عبدًا إن يلق الله تائبًا من ذنبه كان حقًّا على الله أن يغفر له ذنوبه، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل، والله ما أزعم أني رأيت منكم عبدًا من عباد الله أقل غمرًا، ولا أبرأ صدرًا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أنصح للعامة، ولا أشد عليهم تحننًا وشفقة منه، فترحموا عليه، ثم احضروا الصلاة عليه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والله لا يلي عليكم مثله أبدًا". فاجتمع الناس، وأُخرج أبو عبيدة، فتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أُتي به إلى قبره، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما سفوا عليه التراب، قال معاذ: "رحمك الله أبا عبيده! فوالله لأثنينّ عليك بما علمت! والله لا أقولها باطلاً، وأخاف أن يلحقني من الله مقت! كنتَ والله -ما علمت- من الذاكرين الله كثيرًا، ومن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، ومن الذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قوامًا.
وكتب معاذ إلى عمر -رضي الله عنهما- بوفاة أبي عبيدة، فجاء في الرسالة: "أما بعد: فاحتسب امرأً كان لله أمينًا، وكان الله في نفسه عظيمًا، وكان علينا وعليك -يا أمير المؤمنين- عزيزًا، أبا عبيدة بن الجراح، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب، وبالله نثق له. كتبت إليك وقد فشا الموت وهذا الوباء في الناس، ولن يخطئ أحدًا أجله، ومن لم يمت فسيموت، جعل الله ما عنده خيرًا له من الدنيا، وإن أبقانا أو أهلكنا، فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته".
فلما وصل الكتاب إلى عمر، فقرأه، بكى بكاءً شديدًا، ونعى أبا عبيده إلى جلسائه، فبكى القوم وحزنوا حزنًا شديدًا مع التسليم بالقضاء والقدر. تُوفي أبو عبيدة سنة ثمان عشرة، وله ثمان وخمسون سنة، ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان.
اللهم…