عناصر الخطبة
أمّا بعد: فاتّقوا الله -أيها المسلمون- حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى، فإنّ تقوى الله خير زادٍ ونِعم المدَّخَر ليوم المعاد.
عبادَ الله: إنَّ لكلّ أمّة عيدًا يعود عليهم في وقتٍ معلوم، يتحقَّق فيه أمَل، ويتَتَابع به عمل، وتتقوَّى به عقيدةُ تلك الأمة، وتقوم فيه بِعبادتها، وتحقِّق به جانبًا عظيمًا من وحدَتها، ويتمثَّل في هذا العيدِ رمزُ وجودها؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: 67] قال: "منسكًا يعني عيدًا".
لكنّ أمّةَ الإسلام تختلِف في عيدها عن الأممِ الأخرى؛ فالأمَم غيرُ الإسلاميّة أعيادُها أعيادٌ جاهلية أرضية من وضعِ البشر، لا تنفع في هداية القلوب بشيء، أمّا أمّةُ الإسلام فقد بنى مجدَها الواحد الصّمدُ رافِع السماء بلا عمد، قال تعالى: (لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
إنَّ أمةَ الإسلام عميقةُ جذور الحقِّ في تاريخ الكون، متَّصلِةُ الأسباب والوشائج عبرَ الزمان السحيق، قال الله تعالى: (إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]. وختَم الله الأنبياءَ الذين بعثَهم اللهُ بالدّين الحقِّ -عليهم الصلاة والسلام-، ختمَهم بسيّد البشر، فنسخَت شريعته كلَّ شريعة، فمن لم يؤمِن بمحمد فهو في النّار أبدًا.
وأمرَه الله تعالى أن يتّبعَ ملّةَ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:123]، فكانت أمّة الإسلام وارثةَ خليل الرّحمن محمّد، ووارثةَ خليل الله إبراهيم الأبِ الثالث للعالَم -عليه الصلاة والتسليم-.
وأنتم في عيدِكم هذا على إرثٍ حقّ ومَأثَرةِ صِدق من الخليلين -عليهما الصلاة والسلام-، فقد منَّ الله على المسلمين بعيد الفطر وعيد الأضحى، عن أنس قال: "قدِم علينا رسول الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: لقد أبدَلَكم الله بهما خيرًا منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى". أخرجه أبو داود والنسائي.
وقد جعل الله برحمتِهِ وحِكمته هذين العيدَين بعد عبادة عظيمة، فجعل عيدَ الفطر بعد الصيامِ والقيام، ينقُل النفسَ من الجهد والاجتهادِ في العبادة إلى المباحاتِ النافعة التي تجِمّ القلبَ ليستعدَّ لعبادات أخرى، وعيد الأضحى بعد الوقوفِ بِعرفة الذي هو أعظم ركنٍ في الحجّ، فيومُ عرفَة مقدِّمَة ليوم النّحرِ بين يديه، فإنَّ يومَ عرفة يكون فيه الوقوفُ والتضرّع والتوبة والابتهال والتطهُّر من الذنوب والنقاء من العيوب، ثم يكون بعده يومُ النحر وذبحُ القرابين عبادةً لله تعالى وضِيافة ونزلاً من الله الجوادِ الكريم لوفده، ثم يأذن الله لوفده بزيارته والدخول إلى بيته العتيق بعد أن هذِّبوا ونُقُّوا؛ ليتفضّل عليهم ويكرمهم بأنواع من الكرامات والهبات، لا يحيطُ بها الوَصف.
وعيدُكم هذا سمّاه الله في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبر؛ لأنّ أكثَرَ أعمال الحجِّ تكون فيه، وجاء في فضل هذا العيد ما رواه أحمد وأبو داودَ من حديث عبد الله بن قُرط أن النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الأيّام عند الله يومُ النحر ويوم القرّ". وهو اليومُ الذي بعد يومِ النّحر، أي: الحادي عشر.
ومن رحمةِ الله وحِكمته أنّه إذا شرع العملَ الصالح دعا الأمّةَ كلَّها إلى فعله، وإذا لم يتمكَّن بعض الأمّة من ذلك العملِ الصالح شرَع لهم من جنسِه من القرُبات ما ينالون به من الثوابِ ما يرفع الله به درجاتهم، فمن لم يقدَّر له الوقوفُ بعرفات للحجّ شرع الله له صيامَ عرفة الذي يكفّر السنة الماضية والقابلة، وشرَع له الاجتماعَ لعيدِ الأضحى في مصلّى المسلمين، وصلاةَ العيد والذكر والأضحيةَ قُربانًا لله تعالى، كما يتقرَّب الحاجّ بالذبح لله يوم النّحر اتِّباعًا لهدي نبيّنا محمّد، وتمسُّكًا بملّة أبينا إبراهيم، وتحقيقًا لعبادةِ الله وحدَه لا شريك له، وتوحيدًا لقلوبِ الأمّة، وجمعًا لكلمتِها، وربطًا لأمّة الإسلام بهُداتها العِظام الأنبياءِ -عليهم الصلاة والسلام-، فقد أوقَفَ جبريل -عليه الصلاة والسلام- نبيَّنا على المشاعِرِ والمناسِكِ كلِّها منسكًا منسكًا، وشرَع الله له كلَّ قُربة صالحة كما فعل من قبلُ مع أبيه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون: إنَّ عيدَكم هذا ذو منافعَ عظيمة وفوائدَ كريمة، منافعُه في العبادةِ، حيثُ يتقرَّب فيه المسلم بأحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، ومنافِعُه في الاجتماعِ؛ حيث يتواصَل فيه المسلِمون ويتزاوَرون ويترابَطون ويتسَامحون ويتوادّون فيكونونَ كالجسدِ الواحِد، تتلاشى فيه الضغائن والحزازاتُ والأحقاد، وتنتهِي فيه القطيعةُ والتّدابُر، فيكون المسلِمون بنعمة الله إخوانًا، ويتعرّضون في هذا العيد وفي مجتمعه لنفحات الله، ويسألون الله من فضله في الدنيا والآخرة، فتغشاهم الرحمة من الله، ويستجيب الله -تبارك وتعالى- لهم، ويرحم اجتماعهم، ويتفرَّقون بغنائمَ منَ الله وفَضل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله: الصلاةَ الصلاةَ؛ فإنها عمودُ الإسلام وناهيَةٌ عن الآثام، أقيموها في بيوتِ الله جماعة؛ فإنها أوّل ما يُسأَل عنه العبدُ يومَ القيامة، فإن قُبِلت قُبِلت وسائِر العمل، وإن رُدَّت رُدَّت وسائر العمل، وأدّوا زكاةَ أموالِكم طيّبةً بها نفوسُكم؛ فمن أدّاها فلَه البركةُ في مالِه والبشرى له بالثّواب، ومن بخل بها فقد مُحِقت بركة مالِه والويل له من العقاب. وصومُوا رمضانَ، وحُجّوا بيتَ الله الحرام؛ تدخلوا الجنّة بسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصِلَة الأرحام، فقد فاز من وفَّى بهذا المقام، وأحسنوا الرعايةَ على الزوجات والأولادِ والخدَم ومن ولاّكم الله أمرَه، وأدّوا حقوقهم، واحمِلوهم على ما ينفعهم، وجنِّبوهم ما يضرّهم، قال الله تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، وفي الحديث عن النبيِّ: "كلُّكم راع، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته".
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون: إيّاكم والشِّركَ بالله في الدّعاءِ والاستِعانة والاستِغاثة والاستِعاذة والذّبح والنذر والتوكُّل والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادَتِه خلَّدَه الله في النار، قال الله تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة:72]، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
وإيّاكم وقتلَ النفس التي حرَّم الله، ففي الحديث: "لا يزال المسلِمُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا"، ولزوالُ الدّنيا أهوَن عند الله من قتلِ رجلٍ مؤمِن.
وإيّاكم والرّبا؛ فإنه يوجِب غضَبَ الربّ، ويمحَق بركة المال والأعمار، وفي الحديث: "الرِّبا نيِّفٌ وسبعون بابًا، أَهونُها مِثل أن ينكِحَ الرّجل أمَّه".
وإيّاكم والزِّنا؛ فإنّه عارٌ ونار وشَنار، قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء:32]، وفي الحديث: "ما مِن ذنبٍ أعظم عند الله بعد الشِّرك من أن يضَعَ الرجل نطفتَه في فرجٍ حرام".
وإيّاكم وعملَ قومِ لوطٍ؛ فقد لعن الله من فعل ذلك، قال –صلى الله عليه وسلم-: "لعَن الله من عَمِلَ عملَ قومِ لوط"، قالها ثلاثًا.
وإيّاكم والمسكراتِ والمخدِّرات؛ فإنّها موبِقاتٌ مهلِكات، توجب غضَبَ الربِّ، وتمسَخ الإنسان، فيرى الحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، عن جابر أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ مسكرٍ حرام، وإنّ على الله عهدًا لمن يشرَب المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال، عُصارةِ أهل النار". رواه مسلم والنسائي.
وإيّاكم وشربَ الدّخان، قال تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:15]، وهو باب من أبواب الشرّ كبير، يفتح على الإنسان شرورًا كثيرة.
وإيّاكم وأموالَ المسلمين وظلمَهم؛ فمن اقتطَع شبرًا من الأرض بغيرِ حقٍّ طوَّقه الله إياه من سبعِ أراضين، وإيّاكم وأموالَ اليتامى؛ فإنّه فَقرٌ ودمار وعقوبة عاجلة ونار. وإيّاكم وقذفَ المحصنات الغافلات، فإنه من المهلِكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وإيّاكم والغيبةَ والنميمة؛ فإنها ظلمٌ للمسلم وإثم، تذهَب بحسناتِ المغتاب، وقد حرَّمها الله في الكتاب.
وإيّاكم وإسبالَ الثياب والفخرَ والخُيَلاء، ففي الحديثِ: "ما أسفَلَ من الكعبَين فهو في النّار".
يا معشرَ النِّساء: اتَّقين اللهَ تعالى، وأطِعن الله ورسوله، وحافِظن على صلاتِكنّ، وأطعنَ أزواجكنّ، وارعَينَ حقوقهم، وأحسِنَّ الجوار، وعليكنّ بتربيةِ أولادكنّ التربيةَ الإسلامية ورعاية الأمانة، وإيّاكنّ والتبرجَ والسفور والاختلاطَ بالرّجال، وعليكنّ بالسِّتر والعفاف؛ تكنَّ من الفائزات، وتدخُلنَ الجنّةَ مع القانتات، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلَّت المرأة خمسَها، وصامت شهرَها، وحفِظت فرجَها، وأطاعت زوجَها؛ قيل لها: ادخُلي الجنّةَ من أيِّ أبواب الجنة شِئتِ". رواه أحمد والطبراني.
وعن ابن عبّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: جاء النبيُّ مع بلال إلى النّساء في عيد الفطر فقرأ: (ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَـاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الممتحنة: 12]، ثم قال: "أنتُنّ على ذلك؟!"، قالت امرأة: نَعَم يا رسول الله.
وروى الإمام أحمدُ أنّ أُمامةَ بنت رُقيقة بايعَت رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- على هذه الآية، وفيه: "ولا تنوحِي، ولا تبرَّجي تبرُّجَ الجاهلية". ومعنى (وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـانٍ يَفْتَرِينَهُ) أي: لا يلحِقنَ بأزواجهنّ غيرَ أولادهم؛ لحديث أبي هريرة: "أيما امرأةٍ أدخلت على قومٍ ولدًا ليس منهم فليسَت من الله في شيءٍ ولن تدخُلَ الجنّة". رواه أبو داود.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾ [يونس: 57- 58].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كلّما ضجَّت الأصواتُ بالدعوات، الله أكبر كلّما تقرَّب العابدون بالصالحات، الله أكبر كلَّما تعرَّضوا لنفحاتِ الرحمن في عرفات، وكلّما سفَحت الأعين هنالك من العَبَرات، الله أكبر كلَّما تعاقب النورُ والظلُمات، الله أكبر عددَ ما خلق في السماء، الله أكبر عدَدَ ما خلَق في الأرض، الله أكبر عدَدَ كلِّ شيء، الله أكبر ملءَ كلِّ شيء، الله أكبر عدَدَ ما أحصاه كتابه ومِلءَ ما أحصاه كتابه.
الحمد لله ربِّ العالمين، أعزَّ بطاعته المتّقين، وأذلَّ بمعصيته الفاسقين، الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، بعثه الله بين يدَيِ الساعة رحمةً للعالمين، لينذِر من كان حيًّا ويحقَّ القول على الكافرين، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- تفلحوا، وأطيعوه تهتَدوا.
عبادَ الله: إنَّ يومكم هذا يومٌ فضيل، وعِيدٌ عظيم جليل، يجتمع فيه الحاجّ بمنى، يكمِّلونَ أنساكَ حجّهم، ويذبحون قرابينَهم للإله الحقّ لا ربَّ غيره، إِحياءً لسنّة أبيهم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بشرعِ نبيِّنا محمّد، فقد أمر الله خليلَه إبراهيم بذبحِ ابنه الوحيد إسماعيلَ -عليه السلام-، فبادَرَ إلى ذلك مُسارِعًا، وأتى الأمر طائعًا، فلمّا أضجعه للذّبح سلَب الله السكينَ حدَّها، وعالج الذّبحَ بالسّكّين فلم تنفُذ في الرقبة، فلمّا اطَّلع الله على العزمِ الأكيد واليقينِ الوَطيد فدى الله إسماعيلَ -عليه السلام- بذِبحٍ عظيم، وفاز الخليلُ -عليه الصلاة والسلام- في هذا الابتلاء، وحقَّق درجةَ الخلّةِ التي لا تقبَل الشّرِكة، فأراد الله أن تكونَ خلّةُ إبراهيم خالصةً لله، لا يشاركه فيها محبّةُ الولد، والمحبّةُ والذلّ والانقياد هي العبادَة.
وقد وفَّى مقامَ الخلّةِ أيضًا سيّدُ البشر نبيّنا محمّد، فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً. رواه البخاري.
ووَقفَ العالَم مطَّلِعًا على هذا الابتلاء لأبينَا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، ورَوَتها الأجيالُ من جميعِ الملَلِ عبرَ التاريخ، معظِّمين هذا الإيمانَ الأعلى، وكان ذبحُ أبينا إبراهيم لفِداءِ ابنِه الذي فُدِي به من الرّبِّ -تبارك وتعالى-، كان سُنّةً في بنيه في هديِ الحجّ وأضاحي المسلمين.
جاء في فضلِ الأضحية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-: "ما عمِل ابن آدم في يومِ أضحَى أفضل من دم يُهراق إلا أن يكونَ رحِمًا يوصَل". رواه الطبراني. وعن أبي سعيد الخدريّ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يا فاطمةُ: قومي إلى أضحيتك فاشهدِيها، فإنّ لك بكلِّ قطرةٍ من دمها أن يغفرَ لكِ ما سلف من ذنوبك". قالت: يا رسولَ الله: ألنا خاصّة أهلَ البيت، أو لنا وللمسلمين؟! قال: "بل لنا وللمسلمين". رواه الطبراني والبزار.
واعلَموا أنّ الشاةَ تجزئ في الأضحية عن الرجل وأهلِ بيته، وتجزئ البدنةُ -وهي الناقة- عن سبعة، والبقرة عن سبعةٍ، ولا يجزئ من الضّأن إلا ما تمّ له ستّةُ أشهر، ولا من المعزِ إلاّ الثني، وهو ما تمَّ له سنة، ولا يجزِئ من الإبل إلا ما تمَّ له خمس سنين، ولا من البقَر إلا ما تمّ له سنتان.
ويُستَحَبّ أن يتخيَّرها سمينةً صحيحة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّن مرضُها، ولا العوراء، ولا العجفاء وهي الهزيلةُ، ولا العرجاءُ البيِّن ظلَعها، ولا العَضباء التي ذهب أكثرُ أُذنها أو قرنِها، وتجزئ الجمّاء والخصيّ.
والسّنّة نحرُ الإبل قائمةً معقولةَ اليدِ اليسرى، ويقول عند الذبح: "بسم الله والله أكبر، اللهمّ هذا منك ولَك". ويُستحَبّ أن يأكلَ ثُلُثًا، ويهدِيَ ثلثًا، ويتصدَّق بثلُث، ولا يعطي الجزارَ أجرتَه منها.
ووقتُ الذبح بعد صلاةِ العيدِ ويومان بعده باتفاق أهل العلم، واليومُ الذي بعد ذلك فيه خلاف بينهم، والأرجح جوازه.
عبادَ الله: تذكَّروا ما أمامَكم من الأهوالِ والأمور العِظام بعدَ الموت، وتفكَّروا فيمَن صلَّى معكم في هذا المكان في سالِفِ الزمان من الآباء والأحبَّة والإخوان، كيف خلَّفوا الدّنيا ووَارَاهم التّرابُ وانصرَفَ عنهم الأحباب، ولم ينفَعهم إلا ما قدَّموا، ولم يلازِمهم إلا ما عملوا، يتمنَّونَ استدراكَ ما فرط وفاتَ، وأنَّى للحياة الدنيا أن ترجِعَ للأموات؟!
وتفكَّروا في القرونِ الخالية العظام الشداد، الذين غرَسوا الأشجارَ، وأجرَوا الأنهار، واختَطّوا المدنَ والأمصار، وتمتَّعوا باللّذّات في طول أعمار، كيف نُقِلوا إلى ظلُمات اللحود ومراتِع الدود، وإن ما أتى على الأوّلين سيأتي على الآخرين.
فأعِدّوا للحياةِ الطيّبة الأبديّة، ولا تركَنوا لحياةِ النّصَب والمكارِه والأذيّة، فليست السعادةُ في لبسِ الجديد ولا في أن تأتيَ الدنيا على ما يتمنَّى المرءُ ويريد، لكنّ السعادةَ والله في تقوى الله -عز وجل- والفوز بجنّة الخُلد التي لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، والنجاة من نارٍ عذابها شديد، وقعرها بعيد، وطعامُ أهلِها الزقّوم والضّريع، وشَرابهم المهلُ والصّديد، ولِباسُهم القطِران والحديد.
عبادَ الله: اشكروا ربَّكم على ما منَّ الله به عَليكم في هذه البلادِ من الأمن والإيمان وعافِيةِ الأبدان وتيسُّر الأرزاقِ وتوفُّر مرافق الحياةِ وانطِفاء نارِ الفِتن المدمِّرة، واستديموا نعَمَ الله بشُكرِه وطاعته.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقد قال: "من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا".
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا. اللهمّ ارض عن الصحابة أجمعين.