عناصر الخطبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مسلمين لله بحق، فالإسلام هو الاستسلام لله، وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين؛ استجابة لله، وتزكية للنفس، ومحاسبة لها؛ ولهذا كانوا -رضي الله عنهم- مدرسة للرجال والأجيال.
فما أروع إبراز تجاربهم وسيرهم وتراجمهم في هذا الزمان كقدوات للأجيال! ولاستنباط الدروس والعبر من تجاربهم وحياتهم، فهم -بنص القرآن- أفضل القرون، وسادوا الأرض بأخلاقهم وعزيمتهم، وقد كنا بدأنا بهذا المشروع عبر سلسلة قصص قرآنية، إضافة لسلسلة عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.
وكنا قد تناولنا في خطبة الجمعة الماضية تلك الصفة العربية الأصيلة، والقيمة الجميلة التي اتصفت بها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وهي: صفة الكرم، وعظيم إنفاقها وبذلها المال لوجه الله تعالى، وذكرنا فيها أصالة هذا الخلق النبيل لدى عائشة، فهو خلق أصيل في طبعها، ومتجذر في سجيتها وطينتها، ولا غرابة فهي فقد ورثته من أبيها، وأصلته تأصيلاً شرعيًّا بما تعلمته في بيت النبوة، وكان لكل هذه العوامل تأثيرًا إيجابيًّا على هذا الخلق النبيل لديها.
ومن هنا كان تميز كرم عائشة عن كرم غيرها، ولو استقرأنا فلسفة الإنفاق لدى عائشة لوجدنا أنها تقوم على تأهيل الفقير للعيش الكريم، وإخراجهم من بؤس الفقر وكابوسه الذي قد يحوِّل الفقير إلى إنسان آخر يضر ولا ينفع، ولن يكون فاعلاً بتنمية المجتمع على أقل التقدير؛ ولذا كانت غاية عائشة من وراء إنفاقها إضافة إلى الأجر الأخروي، تحقيق الاستقرار المعيشي في حياة الفقير، فيتحول من كونه عبئًا على الغير وكَلًّا على المجتمع، إلى فرد منتج مشارك فعال، بدءًا بإعالة نفسه وأهله، ومروراً لخدمة مجتمعه ووطنه.
وهذه الإستراتيجية الفذة لعائشة في علاج الفقر هدف نبيل، وغاية أسمى تؤكد رجاحة عقلها، ونظرتها الثاقبة، رغم أنها أنثى، وذات عاطفة جياشة كأية أنثى في الدنيا، إلا أن الغلبة كانت لعقلها وحسن تدبيرها، وسعيها لتحقيق مقاصد الشرع، فرسمت لنفسها خطة للإنفاق تضمن تحقيق أهدافها.
وكنا قد ذكرنا في الخطبة السابقة عجيب إنفاقها، فمائة ألف درهم لا تُمسي ولا تَبيت عند عائشة إلا وقد وزعتها على المحتاجين، ويبدو أن ما سبق من أمثال هذه المواقف الإنفاقية لعائشة هي جلها عبارة عن حالات طارئة رأت شدة الحال والحاجة بالناس، أما في حالات الاستقرار فيبدو أن لأم المؤمنين عائشة منهجًا متميزًا مدروسًا، وخطة محكمة في الكرم والإنفاق والتصدق، ففي الأدب المفرد للبخاري، وصححه الألباني عن عبد الله بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُوْلُ: "مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَطُّ أَجْوَدَ مِنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ؛ وَجُوْدُهُمَا مُخْتَلِفٌ: أَمَّا عَائِشَةُ، فَكَانَتْ تَجْمَعُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهَا وَضَعَتْهُ مَوَاضِعَهَ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ، فَكَانَتْ لاَ تَدَّخِرُ شَيْئاً لِغَدٍ".
فهي إذاً على عكس كرم أختها أسماء بنت أبي بكر التي لا تبقي إلى الغد شيئًا، فأسماء إذا جاءها الشيء تصدقت به مباشرة ولو كان يسيرًا، وأما عائشة فيبدو أن الأصل في منهج إنفاقها وكرمها التروي طمعاً بأثر أكبر يتركه الإنفاق في حياة المحتاج، وهذا من ذكاء عائشة وفقهها وفطنتها، لأن الشيء اليسير لو قدمته لفقير قد لا يحدث التغيير المطلوب في حياة الفقير، بعكس إذا ما اجتمع شيء إلى شيء فقد يفتح به الفقير باباً أو مشروعًا يدر عليه الربح باستمرار وإلى ما شاء الله، وغالبًا فمثل هذا يغنيه، ولا يحتاج إلى السؤال مرة ثانية، ولا شك أن في هذا درسًا لنا -معاشر الرجال والنساء- بأن الإنفاق المدروس المخطط له أثر واضح في علاج مشكلة الفقر، ففرق بين أن تُعلم الفقير مهنة أو تفتح له مشروعًا، وبين أن تكفيَه حاجته لمرة، ثم يعود مرات! أو أن تشتري له فاكهة أو حلوى أو أغراضًا ليست من الضروريات المعيشية في الحياة، بل هي من الكماليات، وكما يقول المثل:"لا تعطي الفقير السمكة بل علمه كيف يصطادها".
وكم نحن بحاجة إلى دراسة جدوى الإنفاق وأثره قبل الإنفاق والتصدق! فمثلاً؛ من المجالات المفضلة لدى عائشة -رضي الله عنها- الإعتاق وتحرير الرقاب، فقد كانت كثيرة الرفق بالأرقاء، تعرف معاناتهم، وتسعى ما استطاعت إلى تحريرهم ليكونوا أحراراً يعتمدون على أنفسهم، وقد أعتقت في كفارة يمين واحدة أربعين رقبة، وكانت عندها جارية من قبيلة تميم فسمعت من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذه القبيلة من ولد إسماعيل فأعتقتها؛ ويتضح ذلك أكثر في قصة بريرة المشهورة حيث جاءتها تستعينها في كتابتها، أي عتق نفسها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فاشترتها وأعتقتها.
ثم إن كرمها كان مبنياً على العلم ومعرفة أقدار الناس، فكانت تعين أصحاب الحاجات على قدر مراتبهم وحاجاتهم، وتنزلهم منازلهم, فإذا جاء شخص مسكين يكفيه اليسير فتقضي عائشة حاجته اليسيرة، وأما لو جاء أحد كان عزيزًا فذل فكانت تعتني به أكثر من الأول من باب: "ارحموا عزيزَ قومٍ ذلَّ، وغنيَّ قومٍ افتقر".
وهذا ليس فقط مع الفقراء والمحتاجين، إذ الكرم ليس بالمال فقط، بل بسخاء النفس، فنجد أنها أذنت لعمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه في حجرتها، فآثرته على نفسها تقديرًا لمقام عمر -رضي الله عنه-، وتنزيلاً له المنزلة المناسبة، مع أنها كانت قد تركت هذا المكان لنفسها، فقد كانت تحب وتتمنى أن تدفن في جوار زوجها ووالدها، فآثرت عمر على نفسها، وهذا غاية الكرم والسخاء! فرضي الله عنها وأرضاها.
وهاهي -رضي الله عنها- هذه المرة تُكرم ربيعة الأسلمي -رضي الله عنه- بطعامها الذي لا تجد غيره،كما جاء في قصة زواجه عندما لم يجد شيئًا يُولم به، فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا، فَلْتَبْعَثْ بِالْمِكْتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ" قَالَ: فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: هَذَا الْمِكْتَلُ فِيهِ تِسْعُ آصُعِ شَعِيرٍ، لَا وَاللَّهِ إِنْ أَصْبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيْرُهُ خُذْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-.
حقاً لقد كانت صفة الكرم خلقًا أصيلاً في عائشة حتى أيام الفقر والعوز وقلة ذات اليد، وكان يقينها فيما عند الله أقوى وأوثق من يقينها بما في يدها، كما جاء في الموطأ وشعب الإيمان للبيهقي عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ، فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ. فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ؟! فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا شَاةً وَكَفَنَهَا، فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ.
إنها الثقة واليقين بموعود رب العالمين، تلك الصفة التي افتقدها الكثير من الناس اليوم، وكانت عائشة لا تحقر من المعروف شيئاً؛ كما في الحديث المتفق على صحته عن عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، وفي رواية: "فلم يكن عندي شيء أعطيها إلا تمرة فأعطيتها إياها"، فَأَخَذَتْهَا فَشَقَّتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَيْهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ".
هكذا كانت عائشة تنفق ما تجد ولو كانت تمرة، عملاً بقول حبيبها محمد -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله ولو بشق تمرة"، فهي الكريمة بنت الكريم في السراء والضراء، وفي حال الفقر والغنى، فلا يخفى عليها –وهي العالمة الفقيهة- أن ليس من شرط الكرم أن تقدم الآلاف المؤلفة، أو القناطير المقنطرة، بل الجود من الموجود، إذا لم تجد عائشة إلا تمرة واحدة في بيتها فليكن الكرم بتمرة واحدة؛ لأن الله يقول: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ [الحج:37].
ولأنها تتعامل مع من هو عالم بالنيات والسرائر، وما تخفيه الصدور والضمائر، ألم يقل المعصوم صلى الله عليه وسلم-: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ" قَالُوا وَكَيْفَ؟ قَالَ: "كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا".
إذًا ليست العبرة في الكرم والتصدق بكمية العطاء، بل العبرة بما وقر في النفوس، فقد تبذل شيئًا بسيطًا في أعين الآخرين يبلغ بك إلى درجة أجود الأجودين، ويحجز لك مكانًا في أعلى عليين، كما في قصة بغي بني إسرائيل عندما غفر لها بسبب سقيها كلبًا على وشك الموت من العطش، فلا تبخلن أيتها الأخوات الكريمات ولو بشربة ماء، أو حبة عنب، واسمعن لعائشة وهي تعطي الدرس في هذا المجال، فذات مرة استطعمها مسكين وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ هذه الحبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب فقالت: أتعجب؟! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟! تشير إلى قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7].
وقد قال -صلى الله عليه وسلم- مخاطبًا النساء: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" والفِرْسِن: الظِّلْف وَهُوَ للشاة، والخُفُّ للبَعير، إذا -معاشر المؤمنون والمؤمنات- قد يبلغ الإنسان بنيته الصادقة التي لا تَخفى على الله أجر من يتصدق بقناطير مقنطرة من المال؛ هكذا كانت هذه المرأة المسلمة عائشة -رضي الله عنها-، فكانت تتصدق وتبذل بسخاء نفس غريب وعجيب، مع حرصها كل الحرص على الإخلاص وحسن النية في الصدقات، فقد كانت تكره الثناء وترد الإطراء، وكثيرًا ما تقول: ليتني كنت نسيًّا منسيًّا! كما كانت كثيرًا ما تتمثل ببيت لبيد بن أبي ربيعة:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعاشُ في أكْنَافِهِمْ *** وَبَقِيتُ في خَلَفٍ كجِلْدِ الأجربِ
وتقول: رحم الله لبيدًا! فكيف لو رأى زماننا.
وقال عروة بن الزبير: رحم الله أم المؤمنين: فكيف لو رأت زماننا! وقال ابنه هشام بن عروة: رحم الله أبي! فكيف لو رأى زماننا هذا! وأقول -رحمة الله عليهم أجمعين-: كيف لو رأوا زماننا!.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.