عناصر الخطبة
الحمد لله الذي شرف هذه الأمة؛ فجعلها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أحمده تعالى وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، كتب الخيرية والفلاح لدعاة الخير والإصلاح.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حامل لواء الدعوة والجهاد والكفاح، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه، وترسموا خطاه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الإيمان بالله عز وجل، والدعوة إليه، والنصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، وإشاعة الخير والفضيلة بين الناس، ومحاربة الشر والرذيلة والفساد واستئصاله من المجتمع – من أبرز سمات هذه الأمة، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، التي فاقت بها سائر الأمم، يقول الله -جلَّ وعلا-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110].
لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل قد عدَّه بضع أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام، كل ذلك لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل وانتشار الفساد، وغلبة المعاصي وهيمنتها، وهي الجالبة لسخط الله، المنذرة بمقت الله وعاجل عقوبته على الأفراد والأمم.
أمة الإسلام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمارة الإيمان، وإن تركه علامة النفاق: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:67] ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة:71].
وهما من أعظم أسباب النصر على الأعداء والتمكين في الأرض، قال عز من قائل: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ(41)﴾ [الحج:40-41] وهما طوق النجاة وسربال الحياة: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف:165]
وبالجملة؛ فهما من أفضل الأعمال، وآكد الفرائض، وأوجب الواجبات، وألزم الحقوق، وقد جاء كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما يؤيد ذلك، يقول أصدق القائلين: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104]
وروى مسلمٌ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
وروى الترمذي وغيره عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتقِ الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض -ثم قال-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]
ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" رواه أبو داود و الترمذي وهو حديثٌ حسن.
إخوة العقيدة: أرأيتم لو أن فرداً أصيب بمرضٍ عضال في جزءٍ من جسمه فأهمله، أوليس يستشري المرض في جسده كله، فيتعسر علاجه ويتعذر شفاؤه، كذلكم المنكر -يا عباد الله- إذا ظهر وتُرك فلم يغير، فإنه لا يلبث أن يألفه الناس ويستمرئوه، وعندئذٍ يصبح من العسير تغييره وإزالته، فتعم المنكرات، وتنتشر الفواحش، وتغرق سفينة الأمة.
وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً مثالياً على ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" رواه البخاري .
أيها الإخوة في الله: المعروف الذي جاء الشرع بالأمر به: اسمٌ يجمع كل ما أمر الله به ورسوله، من العقائد والأقوال والأفعال، كالإيمان وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة ونحوها.
والمنكر: ما أنكره الله ورسوله، وأقبح ذلك وأعظمه منكرات العقائد، والأمور المبتدعة في الدين، وكبائر الذنوب، وسائر المعاصي.
أمة الإسلام: يا خير أمة أخرجت للناس! إن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصوراً على أحدٍ بعينه من الأشخاص أو الهيئات، ولكنه واجب كل مسلم وكل على قدر استطاعته، وبحسب منزلته ومكانته، بيد أن على أهل الحل والعقد من الدعاة والعلماء، والوجهاء والمختصين ما ليس على غيرهم، فالأب مسئولٌ عن أسرته وأهله وأولاده، والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والتاجر في سوقه، وهكذا كل على ثغرة من ثغور الإسلام: "وكلٌ راعٍ ومسئولٌ عن رعيته".
بل المسلم الحق حيثما حل وقع أفاد ونفع؛ لأنه عضوٌ في جسد هذه الأمة، له مكانته وعليه واجباته، وهو مطالب بالتفاعل مع مجتمعه، والألم لألمه، والنشاط في محيطه، نشراً للخير والصلاح، ودرءاً للشر والفساد.
فلنتق الله -يا عباد الله-، وليكن كل واحدٍ هنا هيئة بذاته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنتعاون في تحقيق هذا المبدأ العظيم، ولنكن يداً واحدة على من يريد خرق سفينة أمتنا بالشر والفساد، رائدنا في ذلك الإخلاص، والحكمة والشفقة، والرفق والأناة والرحمة؛ فتلك أبرز الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها من يتصدَّى لهذا الأمر العظيم.
فهم دعاة خيرٍ ورحمة، وحرصٍ وشفقة، وغيرة على دين الله القويم، وخوفٍ على إخوانهم المسلمين، ومن كان بهذا المثابة، فأولى أن يساند ويعاضد، ويشجع، ويآزر ويكرم مادياً ومعنوياً.
يا خير أمةٍ أخرجت للناس: إنه إذا أفلت زمام هذا الأمر وطوي بساطه، وقّلَّ أنصاره وأخفقت رايته، وأهمل علمه وعمله، فشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وفسدت البلاد، وهلك العباد.
وإن الناظر فيما أصاب المجتمعات المعاصرة من تفاقم المحرمات، وانتشار المنكرات، مما تعجز عن وصفه الكلمات، ويترجم عنه الحال في كثيرٍ من الجوانب العقدية والشرعية؛ والأخلاقية والفكرية، مما ذهبت معه الغيرة، وهتكت من أجله الأعراض، وانتشرت الأفكار الهدَّامة، والمبادئ المنحرفة، وتطاول فيه الفساق من الرجال والشباب والنساء، ليتساءل: أين الغيرة الإسلامية؟! وأين الحمية الدينية؟! بل أين النزعة الإنسانية، والشهامة العربية، والرجولة الأصلية؟! هل نزعت من القلوب، واضمحلت من النفوس؟!
إنه إذا كثر الخبث وانتشر الفساد ولم يُغيَّر، عمَّ العذاب الصالح والطالح، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوحى الله إلى جبريل أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها قال: يا رب! إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين! قال: به فابدأ؛ فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة قط".
وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" متفقٌ عليه، ومع ذلك كله، فلا يزال ولله الحمد والمنة في أرض الله من هو قائمٌ لله بحجته، وصادعٌ بدعوته.
ولا نيأس من روح الله، بل نتفاءل خيراً إن شاء الله، ولكن الأمر بحاجة إلى المزيد من الجهود الإسلامية المتظافرة؛ لتحقيق هذا المبدأ العظيم، ونشره في بلاد المسلمين، ليعم الخير وينتشر، ويتوارى الباطل ويندحر، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين، وهدانا صراطه المستقيم، وتاب علينا أجمعين، إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بما أوجب الله عليكم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد عرفتم منزلته ومكانته في هذا الدين، والأدلة عليه، والوعيد الشديد على من تركه وأهمله، وأدركتم ما وصل إليه الحال، وبان لكم أسباب ذلك ونتائجه الوخيمة.
ووقفتم على وصفة من علاج ذلك الأمر، وصفات من يقوم به، فلم يبقَ إلا العمل الجاد المخلص، المبني على أسسٍ سليمة، وقواعد محكمة حكيمة، وترك التواني والتواكل والتلاوم، وإلقاء التبعة على الآخرين.
فلو قام كلٌ منا بواجبه، وعرف دوره ورسالته، وتعاون مع إخوانه، لم يجد الباطل سبيلاً، ولم يلق الفساد رواجاً، ولكنها سنة الله في خلقه، لينظر من يجد ويعمل، ممن يترك الحبل على الغارب ويهمل.
ولكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، فقد كان أشد الناس غيرة على دين الله، وحرصاً على تبليغ رسالة الله، وغضباً إذا انتهكت حرمات الله.
ألا فصلوا وسلموا عليه صلاة متبعٍ له مقتدٍ به، مهتدٍ بهديه، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56]
اللهم صلَّ وسلم على نبينا عبدك ورسولك محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.