عناصر الخطبة
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَزَى عَلَيْهِمَا بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْجَنَّةِ ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: 23]، نَحْمَدُهُ عَلَى هِدَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى إِنْعَامِهِ وَرِعَايَتِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظُمَ حِلْمُهُ عَلَى عِبَادِهِ فَأَمْهَلَهُمْ، وَوَسِعَتْهُمْ رَحْمَتُهُ سُبْحَانَهُ فَتَابَ عَلَى مُذْنِبِهِمْ، وَقَبِلَ تَائِبَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَائِعِهِمْ، وَاسْتَجَابَ دَاعِيَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِيَلِجُوهَا، وَشَرَعَ لَهُمْ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِهَا، فَمِنْهُمُ المُشَمِّرُونَ وَمِنْهُمُ المَحْرُومُونَ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِرَمَضَانَ فَيَقُولُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَحْسِنُوا اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ الْكَرِيمِ بِتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ، وَتَكْثِيفِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَنْزِيهِ اللِّسَانِ عَنِ الْفُحْشِ وَسُوءِ الْقَوْلِ وَفُضُولِ الْكَلَامِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ عَنِ الْحَرَامِ، وَحِفْظِ الْأَسْمَاعِ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْغِنَاءِ وَالمَعَازِفِ وَأَصْوَاتِ الْقِيَانِ، فَإِنَّ الْأَلْسُنَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ تُلْقِي مَا تَسْتَقْبِلُ عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِمَّا صَلَحَتِ الْقُلُوبُ بِصَلَاحِ مَا تَتَلَقَّاهُ، وَإِمَّا فَسَدَتْ بِفَسَادِ مَا يَرِدُهَا ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
أَيُّهَا النَّاسُ: رَمَضَانُ مَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِ الصَّالِحينَ، وَوَصْفُ الصَّلَاحِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ حَقَّقَ الصَّلَاحَ فِي نَفْسِهِ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَاتِّبَاعِهَا بِالنَّوَافِلِ، وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاجْتِنَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمَكْرُوهَاتِ.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ يَدُلُّ عَمَلُهُ عَلَى صَلَاحِهِ أَوْ فَسَادِهِ، فَسُمِّيَ الصَّالِحُ صَالِحًا لِغَلَبَةِ الطَّاعَاتِ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَ الْفَاسِدُ فَاسِدًا لِغَلَبَةِ المُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَنْتَقِلُ الْعَبْدُ مِنَ الصَّلَاحِ إِلَى الْفَسَادِ بِالِانْتِكَاسِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ مِنَ الْفَسَادِ إِلَى الصَّلَاحِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ.
وَالْوَصْفُ بِالصَّلَاحِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ، بَلْ وَالِازْدِيَادَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، حَتَّى يُعْرَفَ بِهِ؛ وَلِذَا وُصِفَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِأَنَّهُمْ صَالِحُونَ، وَوَصَفُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالصَّلَاحِ لمَّا قَابَلَهُمْ فِي مِعْرَاجِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِنَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ" إِلَّا الْخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ"، وَكَفَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ شَرَفًا أَنَّهُ يُضْفِي عَلَى صَاحِبِهِ وَصْفَ الصَّلَاحِ، وَهُوَ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دُنْيَاهُ، وَعِنْدَ مَوْتِهِ، وَحِينَ يُوَسَّدُ فِي قَبْرِهِ، كَمَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ بَعْثِهِ وَنَشْرِهِ وَحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ.
فَمِنْ مَنَافِعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ، وَرَاحَةُ الْبَالِ، وَسَعَادَةُ النَّفْسِ، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدِّيَانَةِ، وَحِفْظُ الْأَهْلِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَمَحَبَّةُ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُحِبُّونَ الصَّالِحَ فِيهِمْ وَيُجِلُّونَهُ وَيُقَدِّرُونَهُ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ.
وَعِنْدَ المَوْتِ يَتَمَنَّى كُلُّ تَارِكٍ لِطَاعَةٍ أَنْ يُمْهَلَ لِيَفْعَلَهَا، وَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنْ يَعُودَ لِلدُّنْيَا لِيُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ! ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا(100)﴾ [المؤمنون: 99- 100].
قال الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "لِيُنْزِلْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ المَوْتُ، فَاسْتَقَالَ رَبَّهُ فَأَقَالَهُ، فَلْيَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وَقَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَاللَّـهِ مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا إِلَى عَشِيرَةٍ، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّـهِ، فَانظُرُوا أُمْنِيَّةَ الْكَافِرِ المُفَرِّطِ فَاعْمَلُوا بِهَا، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ".
وَالْبَخِيلُ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ أُمْهِلَ قَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفَرِّقَ مَالَهُ الَّذِي جَمَعَ طِيلَةَ عُمْرِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10].
وَعِنْدَ المَوْتِ يَنْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ صَاحِبَهُ فِي سُهُولَةِ نَزْعِ رُوحِهِ، وَبِشَارَتِهِ بِمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "المَيِّتُ تَحْضُرُهُ المَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا، قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ".
وَعَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا سَيِّئًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: "وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ، قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ" (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَسْتَبْشِرُ بِهِ صَاحِبُهُ أَثْنَاءَ حَمْلِهِ إِلَى قَبْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
فَوَصْفُ الْجِنَازَةِ بِالصَّلَاحِ هُوَ وَصْفٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ وَصْفَهَا بِغَيْرِ الصَّلَاحِ هُوَ ذِكْرٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهَا السَّيِّئِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ يُلَازِمُ صَاحِبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى تُوصَفَ جِنَازَتُهُ بِهِ، فَيُقَالُ: جِنَازَةٌ صَالِحَةٌ، وَهُوَ مِنْ شُؤْمِ الْعَمَلِ السَّيِّئِ بِمُلَازَمَتِهِ لِصَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيُقَالُ: جِنَازَةٌ غَيْرُ صَالِحَةٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَدْعَاةٌ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَيَطْرُقَ كُلَّ بَابٍ مِنْهَا، فَكُلَّمَا اسْتَزَادَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوصَفَ بِالصَّلَاحِ، وَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُنْجِيَهُ صَلَاحُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِرَحْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى.
وَهُوَ كَذِلَك مَدْعَاةٌ لِأَنْ يَخَافَ المُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ مَهْمَا صَغُرَتْ فِي نَفْسِهِ؛ لِئَلَّا تُوصَفَ جِنَازَتُهُ بِأَنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ.
وَإِنَّما قَالَتِ الجِنَازَةُ الصَّالِحَةُ: قَدِّمُونِي؛ لِمَا يَنْتَظِرُهَا مِنَ الْبِشَارَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ. وَإِنَّما ضَجِرَتِ الْجِنَازَةُ غَيْرُ الصَّالِحَةِ مِنَ الذَّهَابِ بِهَا إِلَى الْقَبْرِ؛ لِمَا يَنْتَظِرُهَا مِنَ اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَالْعَذَابِ المُهِينِ. وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى الطَّاعَةِ، وَرَدْعًا عَنِ المَعْصِيَةِ.
وَإِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ جَاءَهُ عَمَلُهُ الصَّالِحُ يُبَشِّرُهُ بِمَا يَسُرُّهُ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ يَأْتِيهِ عَمَلُهُ الْخَبِيثُ يُهَدِّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ؛ إِذْ يَتَمَثَّلُ الْعَمَلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المَقْبُورِ المُؤْمِنِ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، -وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَوَاللَّـهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا كُنْتَ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّـهِ، بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّـهِ فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا- فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي".
وَأَمَّا الْكَافِرُ المَقْبُورُ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ -وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ وَاللَّـهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّـهِ سَرِيعًا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّـهِ- فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ).
فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ هَذِهِ المَوَاقِفَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا يُنْجِي الْعَبْدَ فِيهَا -بَعْدَ رَحْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى- إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. مَوَاقِفُ عِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ فِيهَا تَبْشِيرٌ لِلصَّالِحينَ، وَتَقْرِيعٌ لِلْفَاسِدِينَ، وَمَوَاقِفُ عِنْدَ حَمْلِ الجِنَازَةِ، وَمَوَاقِفُ فِي الْقَبْرِ وَالمُسْتَقَرِّ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَإِمَّا فَرَحٌ وَنَعِيمٌ، وَإِمَّا حُزْنٌ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(49)﴾ [الأنعام: 48- 49].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ…
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي دُنْيَاكُمْ؛ فَإِنَّهَا نَجَاتُكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَنْتَظِرُونَ شَهْرًا كَرِيمًا وَمَوْسِمًا عَظِيمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَفِيهِ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ وَالتَّرَاوِيحُ وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وَإِنَّ أَهْلَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ لَنْ يَدَعُوكُمْ لِتَعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَلَنْ يَتْرُكُوكُمْ لِتَعْمَلُوا صَالِحًا يُنْجِيكُمْ فِي آخِرَتِكُمْ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ كُلَّ الِاجْتِهَادِ فِي إِغْوَائِكُمْ، وَإِفْسَادِ صِيَامِكُمْ وَقِيَامِكُمْ، وَوَدُّوا لَوْ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِينِكُمْ.
إِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ طَائِلَ الْأَمْوَالِ، وَيُوَاصِلُونَ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ لِمَلْءِ أَوْقَاتِ الصَّائِمِينَ بِأَنْوَاعِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ؛ لِتَصُومَ أَجْسَادُكُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتُفْطِرَ أَسْمَاعُكُمْ وَأَبْصَارُكُمْ وَقُلُوبُكُمْ عَلَى أَنْوَاعِ الفُجُورِ والْآثَامِ.
إِنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا عُدَّتَهُمْ لِإِفْسَادِ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَبَثُّوا دِعَايَاتِهِمْ فِي أَوْسَاطِكُمْ، لِجَلْبِكُمْ إِلَى قَنَوَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَجَرِّكُمْ إِلَى مَا أَعَدُّوهُ مِنْ مُوبِقَاتٍ وَكَبَائِرَ؛ لِتَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِفَسَادِ أَعْمَالِكُمْ؛ وَلِيَكُونَ رَمَضَانُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ أَنْ تُطِيعُوهُمْ، فَلَيْسَ الصَّوْمُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى مُجَرَّدَ إِمْسَاكٍ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.. كَلَّا، حَتَّى تَصُومَ الْأَلْسُنُ وَالْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ وَالْأَفْئِدَةُ عَنِ الْحَرَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّـهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَأَيُّ زُورٍ أَعْظَمُ مِنْ زُورِ قَنَوَاتٍ حَمَلَ أَصْحَابُهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ صَرْفَ النَّاسِ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَبْدِيلَ شَرْعِ رَبِّهِمْ، وَتَزْيِينَ أَنْوَاعِ المُنْكَرَاتِ لَهُمْ ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 27].
لَقَدْ قَامَ أَحَدُ المُسْلِمِينَ بِعَمَلٍ جَمِيلٍ فِي رَمَضَانَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ مَا يُقَارِبُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أُعْلِنَ دُخُولُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَمَدَ إِلَى جَمِيعِ الشَّاشَاتِ فِي مَنْزِلِهِ فَقَلَبَهَا نَاحِيَةَ الْجُدُرِ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ فِي مُشَاهَدَةِ أَيِّ بَرْنَامَجٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَأَلِفَ أَوْلَادُهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَمَا يَدْخُلُ رَمَضَانُ إِلَّا وَتَسَابَقُوا إِلَى الشَّاشَاتِ يَقْلِبُونَهَا، وَزَارَهُمْ مَنْ زَارَهُمْ خِلَالَ رَمَضَانَاتٍ سَابِقَةٍ وَاقْتَبَسُوا هَذِهِ الْفِكْرَةَ مِنْهُمْ فَعَمِلُوا بِهَا فَكَسَبُوا أَجْرَهُمْ مَعَ أُجُورِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ بِأَنَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ يُحِسُّونَ بِطَعْمٍ عَجِيبٍ لِرَمَضَانَ بِلَا شَاشَاتٍ وَلَا وَسَائِلَ إِعْلَامٍ.
وَالمُحَرَّمُ مُحَرَّمٌ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ، لَكِنَّ اجْتِنَابَ المُؤْمِنِ لِلْمُحَرَّمِ فِي رَمَضَانَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّهْرِ، وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّـهِ تَعَالَى وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَرْضَاهُ عَنْهُ، وَوَفَّقَهُ لِتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ طَوَالَ الْعَامِ. فَأَحْسِنُوا اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ الْكَرِيمِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى، وَتَعْلِيقِ الْقُلُوبِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…