خطبة عيد الفطر

سعيد بن يوسف شعلان

عناصر الخطبة

  1. حديث عن النار وأهوالها
  2. وصف مسهب للجنة ومنازلها ونعيمها
  3. دعوة للاستقامة على الأعمال الصالحة بعد رمضان

أما بعد: فقد تولى شهر الصيام والقرآن، وأقبل العيد الذي لا يشعر بفرحته إلا المؤمنون، الذين بادروا إلى امتثال أمر الله تعالى بصيام شهر رمضان والعمل بما ندبهم إليه رسول الله من قيام لياليه، فالمؤمنون اليوم فرحون بفطرهم، وإذا لقوا ربهم فرحوا بصومهم. 

لقد كان المؤمنون على مدى أيام ذلك الشهر الكريم ولياليه يسارعون: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوتُ وَلأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133].

صاموا أيامه وقاموا لياليه، يسارعون بذلك إلى مغفرة من ربهم للذنوب التي توبق مرتكبها في النار، ويسارعون بذلك أيضًا إلى الجنة التي من زحزح عن النار وأدخلها فقد فاز، أما النار التي هربوا منها فقد جاء في وصفها آيات كثيرة من كتاب الله -عز وجل- تخوف وتحذر منها، منها قوله تعالى في سورة التحريم: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وجاء فيها من حديث رسول الله ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من جهنم"، فقال الصحابة -رضي الله عنهم-: يا رسول الله: إن كانت هذه لكافية، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ولكنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا".

وأما الجنة التي سارع المؤمنون إليها فقد جاء في وصفها كذلك آيات كثيرة من كتاب الله -عز وجل- ترغب فيها وتدعو إليها، منها قوله تعالى خطابًا للمؤمنين يوم القيامة -كما في سورة الزخرف-: (دْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوجُكُمْ تُحْبَرُونَ* يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف:70-73].

وجاء فيها من حديث رسول الله ما أخرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها".

وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودع فيها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها من شجرة إلا وساقها من الذهب والفضة لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن ثمارها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحُلل، وإن سألت عن أنهارها: (أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـارِبِينَ * وَأَنْهَـارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) [محمد:15].

وإن سألت عن طعامهم: (وَفَـاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ) [المعارج:20، 21]، وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن سعة أبوابها فما بين المصراعين مسيرة الأربعين من الأعوام، وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها، وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها، وإن سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام، وإن سألت عن خيامها وقبابها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام، وإن سألت عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف تجري من تحتها الأنهار، وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فرشها فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب، وإن سألت عن أرائكها فهي الأسرّة عليها الخشخانات وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب، فما لها من فروج ولا خلال، وإن سألت عن وجوه أهلها وعن حسنهم فعلى صورة القمر، وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث وثلاثين على طول آدم -عليه السلام- أبي البشر وصورة يوسف -عليه السلام-، وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى من سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب الله رب العالمين، وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها فالنجائب إن شاء الله مما شاء تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان، وإن سألت عن حُليهم وشاراتهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس وملابس التيجان، وإن سألت عن غلمانهم فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون، وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب التي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظم ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عليه القصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت.

هذا وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التشبيه والتمثيل كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، وهذا تشبيه رؤية برؤية، لا تشبيه مرئي بمرئي كما تُرى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد.

إن سألت عن ذلك كله فاستمع يوم ينادي المنادي: "يا أهل الجنة: إن ربكم -تبارك وتعالى- يستزيركم، فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدًا وجمعوا هنالك فلم يغادر الداعي منهم أحدًا، أمر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من لؤلؤ، ومنابر من نور، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دني- على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقروا في مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى منادٍ: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يُبيض وجوهنا، ويُثقل موازيننا، ويُدخلنا الجنة ويُزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار -جل جلاله- قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة: سلام عليكم، فلا تُرد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة: فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟! فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة، أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة: إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف لهم الرب -جل جلاله- عنه الحجب، ويتبدى لهم فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله تعالى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه -تبارك وتعالى- محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان: أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب: ألم تغفر لي؟! فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه".

فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجين بالصفقة الخاسرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)﴾ [القيامة:22-25].

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نرد إلى أوطاننا ونُســلّم

أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أهله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإنكم -أيها الإخوة المسلمون- قد ودّعتم بالأمس شهر رمضان واستقبلتم اليوم العيد، فلا تودعوا بوداعكم شهرَ رمضانَ الصيام وقيام الليل وقراءة القرآن والإحسان والبر وسائر أعمال الخير، لا تودعوا هذه الأعمال بوداعكم لهذا الشهر الكريم، واعلموا أن وراءكم صيام أيام قال فيهن النبي ما يقتضي أنها لو أضيفت إلى شهر رمضان عدلت صيام الدهر كله، قال فيما أخرجه أصحاب السنن عن أبي أيوب -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله"، فاحرصوا على صيامها واحرصوا بعدها على صيام الأيام المسنونة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: كصيام الأيام البيض، والاثنين والخميس، وغيرها، واجعلوا من قيامكم ليالي شهر رمضان توطئة لتعودكم على قيام الليالي في بقية الشهور، واجعلوا من قراءتكم لكتاب الله تعالى صباحًا ومساءً منطلقًا للعزم على دوام تلاوته وتدبره وفهمه والعمل به، واجعلوا من اعتيادكم الإحسان والبر سببًا لاستدامة سائر أعمال الخير التي كنتم عليها حريصين.

داوموا على ما تعودتم عليه في هذا الشهر الكريم إلى سابق العهد، فإنه كثيرًا ما يحل بنا هذا الشهر الكريم ونحن نعزم عزمًا أكيدًا فيما بيننا وبين ربنا على أن نُصلح وعلى أن نتوب وعلى أن لا نرجع إلى ما كنا عليه عاكفين من المعاصي، ولكن ما أن يبعد العهد بشهر رمضان حتى تعود النفوس إلى سابق عهدها من التكاسل والتواكل، بل والوقوع مرة أخرى إلى سابق المعاصي والمخالفات، فإياكم وإياها -أيها الإخوة المسلمون-، واعزموا على توبة نصوح أكيدة لا عودة بعدها أبدًا إلى الضلال والمعاصي، واتقوا الله وراقبوه في سركم وعلانيتكم، فإن ربكم الذي أقبلتم على طاعته في شهر رمضان هو حري أن يُتقى ويُستغفر وأن يُناب إليه، وأن يُحب وأن يقبل عليه في سائر العمر لا في شهر رمضان فحسب، إياكم وهذه العادة التي أصبحت فاشية في كثير من المسلمين إلا من رحم الله، لهم حالٌ في شهر رمضان ليسوا عليه في بقية الشهور.

وأما العيد الذي استقبلتموه فتواصلوا فيه وتزاوروا وتراحموا وتصالحوا، وأولى الناس منكم بالتواصل والتزاور أولو الأرحام كما أخرج صاحبا الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره وأجله فليصل رحمه". ماذا يفعل؟! "فليصل رحمه"، من أراد أن يبسط له في الرزق ويوسع عليه وأن يبارك له في عمره وأجله فليصل رحمه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا فيما نأتي وندع من الأمور، وأن يرزقنا الإخلاص في جميع الأمور من الأقوال والأفعال والأحوال والأعمال، وأسأله -عز وجل- أن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن ينصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيله تعالى في كل مكان، وأن يشفي مرضانا ويرحم موتانا، وأن يختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. آمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصل اللهم وبارك وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


تم تحميل المحتوى من موقع