عناصر الخطبة
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يا أيُّها الذين آمنُوا اتقُوا الله حقّ تُقاته ولا تمُوتُنّ إلا وأنتُم مُّسْلمُون﴾ [آل عمران: 102].
﴿يا أيها النّاسُ اتقُواْ ربّكُمُ الّذي خلقكُم مّن نفْس واحدة وخلق منْها زوْجها وبثّ منْهُما رجالا كثيرا ونساء واتقُوا الله الّذي تساءلُون به والأرْحام إنّ الله كان عليكُمْ رقيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يا أيُّها الّذين آمنُوا اتقُوا الله وقُولُوا قوْلا سديداً (70) يُصْلحْ لكُمْ أعْمالكُمْ ويغْفرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ ومن يُطع الله ورسُولهُ فقدْ فاز فوْزاً عظيماً(71)﴾ الأحزاب: 70 – 71].
أما بعد:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
إن الله -تعالى- قد خاطب الناس كافة وأمرهم بعبادته سبحانه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
وخاطبهم بنسبتهم إلى أبيهم آدم، وأمرهم بعبادته، فقال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)﴾ [يس: 60 – 61].
وكل نبيٍّ دعا قومه: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].
وهذا القول ورد بنصه عن نوح هنا وفي سورة [المؤمنون: 23] وعن هُود في سورتي [الأعراف: [65] و[هود: 50] وصَالِح في سورتي [الأعراف: 73] و[هود: 61] وشُعَيْبٌ في سورتي [الأعراف: 85] و[هود: 84].
وهكذا بقية الأنبياء والرسل دَعَوا أقوامَهم، كما أخبر عنهم من بعثهم وأرسلهم سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].
وخاطب المؤمنين، وأمرهم بعبادته، فقال: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وقال جل جلاله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56].
وأوحى إلى جميع رسله وأنبيائه، فأمرهم بعبادته، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وخاطب خاتمَهم رسولَه ونبيَّه محمدَ بنَ عبد الله، وأمره بعبادته والإخلاص له سبحانه، فقال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 11 – 15].
فمن أطاع وعبد الله وأخلص له نجا، ومن عصا وأشرك، فقد خسر الخسران المبين.
إن عبادة الرحمن مع المعاملة الحسنة لخلق الله سبب لدخول الجنان، فقد أمر بذلك رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامَ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ" [سنن الترمذي، ت شاكر (1855): "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، الصحيحة (571)].
والعبادة الخالصة تربط صاحبها بالآخرة، وتزهده في الدنيا، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "اعْبُدُوا اللَّهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلاً يَكْفِيكُمْ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لا يَبْلَى، وَأَنَّ الإِثْمَ لا يُنْسَى" [الزهد والرقائق، لابن المبارك والزهد، لنعيم بن حماد (1/ 405) (1155) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 110) (34580)].
فما هي حقيقة العبادة التي أُمرنا بها نحن والجن؟
"الْعِبَادَة: هِيَ اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه؛ من الأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة.
فَالصَّلاة وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام وَالْحج، وَصدقُ الحَدِيث وَأَدَاء الأَمَانَة، وبرُّ الْوَالِدين وصلَةُ الأَرْحَام، وَالْوَفَاءُ بالعهود، وَالأَمرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنكر، وَالْجهَادُ للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، وَالإِحْسَانُ للْجَارِ واليتيمِ والمسكين، وَابْنِ السَّبِيل والمملوك؛ من الآدَمِيّين والبهائم، وَالدُّعَاءُ وَالذكر، وَالْقِرَاءَةُ وأمثالُ ذَلِك من الْعِبَادَة.
وَكَذَلِكَ حبُّ اللهِ وَرَسُولِه، وخشيةُ الله والإنابةُ إِلَيْهِ، وإخلاصُ الدَّين لَهُ، وَالصَّبْرُ لحُكْمِه، وَالشُّكْرُ لنِعَمِه، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، والتوكلُ عَلَيْهِ، والرجاءُ لِرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفُ من عَذَابه، وأمثالُ ذَلِك هِيَ من الْعِبَادَة لله.
وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة لله؛ هِيَ الْغَايَةُ المحبوبةُ لَهُ، والمرضيةُ لَهُ، الَّتِي خَلق الْخلق لَهَا، كَمَا قَالَ الله -تَعَالَى-: ﴿وَمَا خلقت الْجِنّ وَالإِنْس إِلاَّ ليعبدون﴾ [الذاريات: 56].
وَبهَا أُرسِلَ جَمِيع الرُّسُل -عليهم الصلاة والسلام-، كَمَا قَالَ نوح لِقَوْمِهِ: ﴿اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره﴾ [الأَعْرَاف: 59]. [العبودية، (ص: 44)].
قال ابن تيمية: "فالإله هُوَ الَّذِي يألهه الْقلب؛ بِكَمَالِ الْحبِّ والتعظيم، والإجلالِ وَالإِكْرَامِ، وَالْخَوْفِ والرجاءِ وَنَحْوِ ذَلِك.. وَهَذِه الْعِبَادَة؛ هِيَ الَّتِي يُحِبهَا الله ويرضاها، وَبهَا وصف المصطَفَينَ من عباده، وَبهَا بعث رسلَه" [العبودية (ص: 53، 54)].
"والطاعة والعبادة؛ هي مصلحةُ العبدِ التي فيها سعادته ونجاته" [قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة، لابن تيمية (ص: 91)].
"والعبادة هي لله وحده، فلا يُصلَّى إلاَّ لله، ولا يُصام إلا لله، ولا يحجُّ إلاَّ إلى بيتِ الله، ولا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى المساجد الثلاثة، لكون هذه المساجد بناها أنبياءُ اللهِ بإذن الله، ولا يُنْذَرُ إلاَّ لله، ولا يُحلَف إلاَّ بالله، ولا يُدْعَى إلاَّ الله، ولا يستغاثُ إلاَّ بالله" [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية (1/ 260)].
"وَالْعِبَادَة؛ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خلقَ اللهُ لَهَا الْعبادَ؛ من جِهَةِ أَمرِ اللهِ ومحبتِه وَرضَاهُ، وَهُوَ اسْم يجمعُ كَمَالَ الْحبِّ لَهُ ونهايتَه، وَكَمَالَ الذلِّ ونهايتَه، وَالْحبُّ الْخَالِي عَن الذلِّ، والذلُّ الْخَالِي عَن الْحبِّ؛ لا يكون عبَادَة، وَإِنَّمَا الْعِبَادَة مَا جمع كَمَال الأَمريْنِ، وَلِهَذَا كَانَت الْعِبَادَة لا تصلح إِلاَّ لله" [مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية (ص: 589)].
إن كَمَال الْحبِّ ونهايته لَهُ سبحانه: ف "الْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ -كما قال ابن القيم-: الْجَمَالُ وَالْجَلالُ، وَالرَّبُّ -تَعَالَى- لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ، وَالإِجْلالُ كُلُّهُ مِنْهُ، فَلا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 31].
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [الْمَائِدَةِ: 54- 56]. [الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أو "الداء والدواء" (228)].
قال ابن القيم: "فَالْوِلايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ، فَلا مُوَالاةَ إِلاَّ بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ.
وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَلأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لأَهْلِهِ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ.
وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ: "لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ الرَّبِّ -جَلَّ جَلالُهُ-؟
وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لا! حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" أَيْ لا تُؤْمِنُ حَتَّى تَصِلَ مَحَبَّتُكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا؛ أَفَلَيْسَ الرَّبُّ -جَلَّ جَلالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟!
وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ -فَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلاؤُهُ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ، وَعَدْلُهُ وَفَضْلُهُ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ، بَلْ تَمْكِينُهُ عَبْدَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِعَانَتُهُ عَلَيْهَا، وَسَتْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنْهَا، وَكَلاءَتُهُ وَحِرَاسَتُهُ لَهُ، وَيَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، يُعِينُهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِنِعَمِهِ-؛ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ، فَكَيْفَ لا يُحِبُّ الْعَبْدُ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، بِعَدَدِ الأَنْفَاسِ، مَعَ إِسَاءَتِهِ؟ فَخَيْرُهُ سبحانه إِلَيْهِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُ -أي شرُّ العبد- إِلَيْهِ صَاعِدٌ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، فَلا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَلا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ عَنْهُ.
فَأَلأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ" [الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، الداء والدواء، لابن القيم (ص: 229)].
قال ابن تيمية: "فالمحبوب الَّذِي لا يُعظَّمُ وَلا يُذلُّ لَهُ لا يكون معبودا، والمعظَّمُ الَّذِي لا يُحَبُّ لا يكون معبودا" [أمراض القلوب وشفاؤها، لابن تيمية (ص: 63)].
لذلك طاعةُ العدوِّ خوفا منه، والذل له قهرا منه لا يعد عبادة؛ لأنها تفتقر إلى الحب.
وقال رحمه الله: "فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذِلَّ لَهُ لَمْ يَعْبُدْهُ، وَمَنْ خَضَعَ لَهُ وَلَمْ يُحِبَّهُ لَمْ يَعْبُدْهُ" [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية (6/ 31)].
أما حبُّ الوالدين والزوجات، والأولاد والأقارب والأموال، فغير داخل في العبادة؛ لأنه حبٌّ خالٍ من الخوف والذلِّ، وهو حبٌّ فِطْريٌّ جِبِلِيٌّ، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
وهذا الحبُّ الفِطْريُّ الجِبِلِيُّ، هو "أصل الْحبِّ -كما قال ابن تيمية- فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي الْحسن وَأُسَامَة: "اللَّهُمَّ إنى أحبُّهما فأحبَّهما وَأحبَّ من يحبُّهما". وَسَأَلَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ: أَي النَّاس أحب إِلَيْك؟ قَالَ: "عَائِشَة" قَالَ: فَمن الرِّجَال؟ قَالَ: "أَبوهَا" وَقَالَ لعَلي -رَضِي الله عَنهُ-: "لأُعْطيَن الرَّايَة غَدًا رجلاً يحبُّ اللهَ وَرَسُولَه وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُه" وأمثال ذَلِك كثير" [العبودية (ص: 108)].
ومن أنواع العبادة: السمع والطاعة؛ لسيخ أو عالم أو قائد أو زعيم في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ! اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ" وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31] قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ، فتلك عبادتهم" [سنن الترمذي، ت شاكر (3095) حسنه في الصحيحة (3293)].
لكنَّ العبادة إذا أودت بصاحبها إلى العُجب والتكبر والتعالي؛ أصبحت وبالاً على صاحبها، وأخرجته من الدين بسرعة السهم المنطلق من قوسه، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَتَعَبَّدُونَ، حَتَّى يُعْجِبُوا النَّاسَ، وَتُعْجِبَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" [مسند أبي يعلى الموصلي (7/ 116) (4066) الصحيحة (1895)].
وليس كل عبادة متقبلةً عند الله -سبحانه-؛ بل هناك عبادات مبتدعة، اخترعها أهلوها فاستحْلَوْها، وتعبَّدوا لله بها، ولم تكن مشروعة، ولم يعرفها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تعبدوها".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق".
قال الألباني: "فهنيئا لمن وفقه الله للإخلاص له في عبادته، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يخالطها ببدعة، إذاً، فليبْشِر بتقبل الله -عز وجل- لطاعته، وإدخالِه إياه في جنته -جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه-" [مناسك الحج والعمرة (1/ 41)].
عَنْ أَبِي قُتَيْلَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ فِي النَّاسِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: "لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَأَقِيمُوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَطِيعُوا وُلاةَ أَمْرِكُمْ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ" [المعجم الكبير للطبراني (22/ 316) (797)، انظر: الصحيحة (7/ 707) (3233)].
انظروا إلى الناس اليوم علامَ يتقاتلون ويختصمون؟! وعلام يتنازعون ويقتتلون! إنهم يتنازعون على المُلك، ويتقاتلون على الحكم، ويتخاصمون على الدنيا، وأصبح أهلُ الحكمِ والملكِ وأصحابُ الدنيا يحسدون أهلَ العبادة، ويتمنون أن يكونوا من ذوي الزهادة.
لما زالت دولة البرامكة، وأُوْدِعَ القادةُ والزعماءُ السجونَ، ومنهم يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ البرمكي: "قَالَ لَهُ بَعْضُ بَنِيهِ وَهُمْ فِي السِّجْنِ وَالْقُيُودِ: "يَا أَبَتِ! بَعْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّعْمَةِ صِرْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ؟!" فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ! دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ وَنَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ، وَلَمْ يَغْفُلِ اللَّهُ عَنْهَا".
ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَةٍ *** زَمَنًا وَالدَّهْرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ *** ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يُجْرِي عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ -أي يمنحه ويعطيه ويهبه- كُلَّ شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْعُو لَهُ فِي سُجُودِهِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ! إِنَّهُ قَدْ كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ".
فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: "مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟!" قَالَ: "غَفَرَ لِي بِدُعَاءِ سُفْيَانَ" [البداية والنهاية، ط هجر (13/ 679)].
وهذا الذي ينفع القادةَ والحكامَ وغيرَهم بعد مماتهم؛ وهو ما كانوا يدخرونه لآخرتهم من الأعمال الصالحات.
وانظروا سعادة القوم الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئا؛ الذين عبدوا الله -سبحانه- وإن أدبرت عنهم الدنيا، روى أبو نعيم بسنده عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَأَبُو يُوسُفَ الْغَسُولِيُّ , وَأَبُو عَبْدِ اللهِ السِّنْجَارِيُّ -وهؤلاء من العباد الزهاد، قال:- وَنَحْنُ مُتَوَجِّهُونَ -لعلهم من العراق، قال:- نُرِيدُ الإِسْكَنْدَرِيَّةَ, فَصِرْنَا إِلَى نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الأُرْدُنِّ, فَقَعَدْنَا نَسْتَرِيحُ, فَقَرَّبَ أَبُو يُوسُفَ الْغَسُولِيُّ كُسَيْراتٍ -من خبز- يَابِسَاتٍ, فَأَكَلْنَا وَحَمِدْنَا اللهَ -تَعَالَى-, وَقَامَ أَحَدُنَا لِيَسْقِيَ إِبْرَاهِيمَ, فَسَارَعَهُ -وسبقه- فَدَخَلَ النَّهَرَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَاءُ رُكْبَتَيْهِ, ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ. فَشَرِبَ, ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ, ثُمَّ يَبْدَأُ ثَانِيَةً, فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ. ثُمَّ شَرِبَ, ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ خَرَجَ فَمَدَّ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا يُوسُفَ! لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ, مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ السُّرُورِ وَالنَّعِيمِ؛ إِذًا لَجَالَدُونَا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ بِأَسْيَافِهِمْ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ الْعَيْشِ، وَقِلَّةِ التَّعَبِ".
زَادَ جَعْفَرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: "يَا أَبَا إِسْحَاقَ طَلَبَ الْقَوْمُ -أي أهل الدنيا- الرَّاحَةَ وَالنَّعِيمَ, فَأَخْطَأُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ" فَتَبَسَّمَ, ثُمَّ قَالَ: "مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْكَلامُ؟" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 370)، الزهد والرقائق، للخطيب البغدادي (ص: 133) (115)].
قال ابن الجوزي: "ولقد صدَق ابن أدهم؛ فإن السلطانَ إن أكلَ شيئًا، خاف أن يكونَ قد طُرِحَ له فيه سُمٌّ، وإن نام، خاف أن يُغتال، وهو وراء المغاليق، لا يمكنه أن يخرج لفرجة؛ فإن خرج، كان منـزعجًا من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقى له لذة مطعم ولا منكح" [صيد الخاطر (ص: 299) (963)].
الحمد لله …
اعتبروا -عباد الله- بالملائكة الذين هم في عبادة لربهم دائمة لا تنقطع، و﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ" [سنن الترمذي (2312) وابن ماجة (4190)، وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" المستدرك (4/ 623) (8726)، قال الذهبي: "على شرط البخاري ومسلم"، وانظر: الصحيحة (1722)].
ومع ذلك كلِّه؛ الملائكةُ يعترفون بأنهم لم يعبدوا اللهَ حقَّ العبادة، فكيف بغيرهم؟! فكيف بنا نحن العصاة المذنبين؟! عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ لَوَسِعَتْ، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: "يَا رَبِّ! لِمَنْ يَزِنُ هَذَا؟" فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: "لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي" فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: "سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ!" وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ مِثْلَ حَدَّ الْمُوسَى، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: "مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا؟!" فَيَقُولُ: "مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِي" فَيَقُولُون: "سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ!" [قال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 629) (8739) قال الذهبي: "على شرط مسلم" وانظر: الصحيحة (2/ 619) (941)، وصحيح الترغيب (3/ 235) (3626) "صحيح لغيره"].
فأين الناسُ في هذا الزمان وعبادةُ الرحمن؟ وأين طلابُ السعادة وبعدُهم عن العبادة؟ وأين أصحابُ العبادة وحذرُهم من العُجْبِ والتعالي على خلق الله، وما يفسد العبادة؟
"كان هَرِمُ بن حَيَّانَ يخرج في شطر الليل، فينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة، كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام هاربها: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)﴾ [الأعراف: 97 – 99].
ثم يقرأ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8)﴾[التكاثر: 1 – 8].
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ [العصر: 1 – 3]. [تاريخ دمشق، لابن عساكر (73/ 376)].