عناصر الخطبة
أما بعد:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
إن المتأمل في حال كثير من الذين يموتون هذه الأيام يجد أن أكثرهم يموت فجأة بغير مقدمات من شيخوخة أو مرض أو نحوه، ترى بعضهم يخرج من بيته ومن بين أهله فلا يعود إليهم، وترى بعضهم يكون بين أصدقائه وفجأة يسقط ميتًا، وبعضهم في حوادث وفي أعمار متوسطة. وقد ورد في الحديث أنه في آخر الزمان يكثر موت الفجأة.
ولموت الفجأة صور كثيرة، فمنها ما يسمى بالسكتة القلبية بأن تتوقف حركة القلب ويحصل بعدها الموت في تلك اللحظة، ولا يتمكن الأهالي من العلاج ولا من استدعاء الأطباء، لحصول تلك السكتة بغتة بدون مقدمات آلام أو أمراض.
ومن صورها: الغشية والإغماء الذي يحصل بعده خروج الروح، ولا تكون هناك مقدمات ولا علامات قبل هذه الغيبوبة، فتحصل الوفاة في تلك اللحظة.
ومن الصور: ما تكاثر من الحوادث المرورية للسيارات، والتي يحصل بسببها موت العديد من الأفراد والجماعات، وذلك بسبب تهور بعض السائقين وركوبهم الأخطار وتعرضهم لأسباب الحوادث، فتارة بالسرعة الجنونية التي يكون من آثارها حوادث الانقلاب والاصطدام، وينتج عن ذلك زهوق أرواح في تلك اللحظة أو الموت دماغيًا، وأحيانًا يكون بسبب غلبة النوم والنعاس على قائد السيارة.
ومن صور موت الفجأة: ما يحصل بالقتال مع اللصوص والصائلين وقطاع الطرق الذين يعرضون للناس.
ومن أسباب ذلك أيضًا: الغصة بلقمة أو مثلاً دخول الماء إلى الأنف، وتسكيره مجال الهواء والجلطات أو غير ذلك، فهذه كلها صور وأسباب لموت الفجأة، وهي غير داخلة تحت الحصر؛ لأنه تختلف أسبابها حسب الأحوال.
يا لها من مفاجأة يباغت فيها الإنسان فيؤخَذ على غرّة، تعددت أسبابها وتلونت أشكالها واختلفت أعمارها وتنقّلت أوقاتها، لا تميّز بين الطفل والشاب والشيخ، كلّ له أجله المكتوب وعمره المحسوب عند رب رحيم حليم.
عجبًا لنا! كيف نجرؤ على الله فنرتكب معاصيه وأرواحنا بيده؟! وكيف نستغفل رقابته والموت بأمره يأتي فجأة؟! أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت؟! إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداعَ الدنيا مستعدًّا للقاء ربه.
روي أن ملك الموت دخل على داود -عليه السلام- فقال: من أنت؟! فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود: أين فلان قريبك؟! أين فلان جارك؟! قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!
أيها المسلمون: قد يكون ملك الموت بانتظارنا ولم يبق من أعمارنا إلا دقائق معدودة، فما نحن فاعلون؟! وهل نحن مستعدون؟! هذه -والله- هي الحقيقة لا محيد لنا ولا مهرب ولا ملجأ.
إنّ موت الفجأة هو جرس إنذار لنا لنستيقظ من غفلتنا، ولننتبه من رقادنا في وقت انشغل الناس بالدنيا ونسوا الآخرة، ونسوا أنهم قادمون على الله شاؤوا أم أبوا.
إن الذي يتابع أوضاع الناس اليوم يلحظ انصرافًا وإعراضًا وانشغالاً بدوامة الحياة، هذه الدوامة المخيفة أشغلت الكثير من البشر، ولم تمنحهم وقتًا للتفكير إلى أن يسقط أحدهم ميتًا. وكثيرًا ما يفاجئك اتصال أو رسالة أو غير ذلك أن فلانًا مات وهو في كامل صحته وعافيته، إنه مصداق حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن من أمارات الساعة كثرة موت الفجأة. رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وقال الألباني: "حسن".
إذًا كيف نستعد لهذا الزائر المفاجئ؟! وما الاستعداد المطلوب؟!
لقد كان كثير من السلف -رحمهم الله- دائمًا على أهبة الرحيل، بحيث لو قيل لأحدهم: إنك ستموت في هذا الشهر؛ لم يكن هناك ما يزيد به في العمل، حيث إنه مستغرق أوقاته في الأعمال الصالحة، وفاطم نفسه عن الآثام والمحرمات.
الجميع من البشر يستيقنون بأنهم سوف يأتيهم الموت ويرحلون عن هذه الحياة، ولكن إقبالهم على الدنيا وانكبابهم على الشهوات والملذات منعهم من الاستعداد للموت، كما قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3]، وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خط خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط، وخط خطوطًا عن يمينه وعن يساره، وخط خطًا خارجًا عنه، ثم قال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا عمله، وهذه الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا".
أخبر بأن هذا الخط البعيد هو الأمل، وأن على الإنسان أن يقصر أمله، ولا يمد بصره إلى أهل الدنيا وملذاتها وشهواتها، كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131].
يا حسرتنا -يا عباد الله- على غفلة قد طمت، ومهلة قد ذهبت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، وأهدرناها في التفاهات، نسير كأن أحدنا سيعمر ألف سنة، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادًا مؤجلاً، كم من قريب دفنا!! وكم من حبيب ودّعنا!! نفضنا غبار القبور من أيدينا وعدنا وعادت معنا الدنيا لنغرق في ملذاتها.
أين العيون الباكية من خشية الله؟! أين القلوب الوجلة من لقاء الله؟! ألا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله؟! ألا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة؟! ألا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى؟! ألا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى؟! ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
إخواني المسلمين: إني أذكّر نفسي وإياكم بأن لا نغتر بالحياة وطولها وآمالها، وأن نذكر الموت والبِلى، فهكذا ينبغي أن يكون المسلم على صلة بتذكّر هذه النهاية وهذا المصير. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستعدون له ويأخذون حذرهم منه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
كم يسعى الإنسان ويجهد في هذه الحياة الدنيا، قد ملأ قلبه بالطموحات، وغرّه طول الأمل، وغفل عن كثرة العلل، فانطلق كالسهم يركض خلف مبتغاه، يعرق ليجمع، ويجمع لينفق أو ليبخل، قد أطغاه حب الجاه، وأرهقه التطلع للمنصب، وأشغله هم الأولاد، وقصم ظهره اللهث وراء الأموال، فيفلح حينًا ويعثر حينًا آخر، وينهض مرة أخرى لا يبالي بتعب ولا يفكر في جهد، فقط أن يصل إلى ما وصل إليه غيره، بل يزيد على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 15].
يا لله! كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه!! وتهدّ من جسده وقوته، يظن أنه سيبلغ غايته وينال مبتغاه. يقول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5].
يا عباد الله: إنه من الخطير حقًا أن نتأفف من ذكر الموت وأسبابه، نراعي في ذلك مشاعرنا؛ لهثًا خلف الفرحة بهذه الدنيا، كيف وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ". يعني الموت. رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح غريب". وما ذاك إلا لأن ذكر الموت يعين بعد الله تعالى على فعل الطاعات والاستزادة من المعروف والخير، ويزهد في الدنيا وزهرتها، ويكشف لك غرورها وزوال متاعها، ويهون عليك فوات نعيمها، لتفكر في نعيم الآخرة المقيم، فتجتهد في العبادة، وتعمل لتلك السعاة.
قال حوشب بن عقيل: سمعت يزيد الرقاشي يقول -لما حضره الموت-: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، ألا إن الأعمال محضورة، والأجور مكملة، ولكل ساع ما يسعى، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت، ثم بكى وقال: يا مَن القبر مسكنه، وبين يدي الله موقفه، والنار غدًا مورده، ماذا قدمت لنفسك؟! ماذا أعددت لمصرعك؟! ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك؟!
ليذكّر بعضنا بعضًا بفناء أعمارنا وفناء هذه الدنيا، ولنستعذب الحديث عما أعده الله لعباده من الجنان والفوز بالرضوان؛ علّ قلوبنا أن تلين لباريها، وتخشع لخالقها العزيز الحكيم.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].