عناصر الخطبة
الحمد لله حمدًا كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، و﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)﴾ [الفرقان:1-2].
ولا إله إلا الله، والله أكبر كبيرًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وحبيبك محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عن آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المؤمنون: خلق الله الخلق، وأمرهم بطاعته، وحبّبها إليهم، وشوّقهم لها، وعلِم ضعفهم، وخصلة القصور فيهم، فنَوّع في جنس العبادات، وجعل منها عبادات قلبية، وقولية، وفعلية. ومن تلكم العبادات وأجلّهاِ، وأحبّها إلى عباد الله المؤمنين: "ذكر الله -تعالى-"، حيث الراحة والسكون، وتعلق قلب المحبوب بالمحب، قال الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- في وصف أهل الإيمان: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:191]، فهو حياة قلوبهم، وسعادة أرواحهم، وهو النهر الجاري الذي يسقيهم ويرويهم، وبدونه لا يستطيعون العيش في هذه الدنيا.
إنها نعمة عظيمة لا يستشعرها إلا من عاش بها وذاق حلاوتها، وتقلب بين ثمارها الطيبة. وهي من أعظم عوامل زيادة الإيمان وتقوية الصلة بالله -تعالى-.
ولقد أمر الله -جل وعلا- عباده بذكره آناء الليل وأطراف النهار، وبالغدو والآصال، وحثّهم على ذلك؛ لكي تزكو نفوسهم، ويقوى إيمانهم، ويزيد يقينهم، قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(42)﴾ [الأحزاب:41-42].
وقد عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذكر من أفضل الأعمال، قال -صلى الله عليه وسلم- لصحابته الكرام وأمته من بعده: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق ﴿الفضة﴾، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟، قال: "ذكر الله" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ومن لازم ذِكر الله -تعالى- في كافة أحواله، لا تراه إلاَّ طيب النفس، صادق الوعد، سبَّاقًا إلى الطاعات، وقَّافًا عند حدود الله، قائمًا بأمره، مجتنباً نهيه، مُدبِرًا عن الدنيا، مُقبِلاً على آخرته؛ أما اللاهي عن ذكره -تعالى- ترى حياته ضنكا، وعيشه كدا، وهمه لا يتوقف، قال -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124]. قال مالك بن دينار: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله -عز وجل-".
والذكر -أيها الكرام- هو حياة القلوب، وطبها وشفاؤها من أدوائها؛ جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"، وفي صحيح مسلم: قَالَ: "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ".
فالأذكار الشرعية والأوراد النبوية التي سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي حياة للقلوب، وحياة للبيوت، بها يحيا المؤمن في كنف الله -تعالى-، حتى يكون موصولاً بربه -جل وعلا-، فينال سعادة الدنيا والآخرة.
وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يحافظ عليها، وكانت جزءاً من حياته اليومية الدائمة، كما ورد ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل حال" رواه مسلم.
والذكر -عباد الله- من أيسر العبادات، وبه تُنال أعظم الدرجات، وتُكفّر السيئات، وإذا عجز العبد عن القيام بنوافل العبادات، أو شقّ عليه ذلك، أو عجز عنه، فالذكر عبادة يسيرة في أدائها، عظيمة الأجر والثواب في أجرها؛ جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِي اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا-، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ عَجَزَ مِنْكُمْ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يجاهدَهُ، وَعَنِ اللَّيْلِ أَنْ يكابدَهُ، فَلْيُكْثِرْ ذَكَرَ اللَّهِ" أخرجه الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده".
عباد الله: وللمحافظة على الأذكار الشرعية فوائد عدة، ذكر منها الإمام ابن القيم: -رحمه الله- أكثر من مائة فائدة منها:
أولاً: إنها نعمة من أعظم النعم وأجلها، وبها يَحْصُلُ العبد على الذكر والثناء من الله -تعالى-، قال -جل وعلا-: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]، وفي الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: تحصيل نعمة انشراح الصدر وطمأنينة القلب، ومعية الله -تعالى-، وذكره للعبد في الملأ الأعلى، قال الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28].
ثالثاً: إنها من أعظم أسباب الحفظ والأمن والسلامة من شرور الدنيا والآخرة. يقول -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً(44)﴾ [الأحزاب:41-44].
رابعاً: إنها تقوّي صلة العبد بربه، وتجعل المؤمن موصولا بربه -جل وعلا-. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل حال" رواه مسلم.
خامساً:كفايةُ الله -جل وعلا- لعبده وحفظه له، ووقايته من شياطين الإنس والجن؛ فقد جاء في فضل آية الكرسي: "إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ؛ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ".
فلنعتن بحفظ ألفاظها، وفقه معانيها، وإكثار اللهج بها، وتحصين أنفسنا وأولادنا بها، فهي الحصن الذي لا يُهدم، والحارس الذي لا يُغلب.
بارك الله لي ولكم…
أيها المؤمنون: إن من أعظم فوائد ملازمة الذكر القوة المعنوية التي تُمنح للمؤمن، حيث يقول الإمام ابن القيم: الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مِشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جُمعة -يعني في أسبوع- أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما. اهـ.
وقد علّم النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته فاطمة وعليا -رضي الله عنهما- أن يسبّحا كل ليلة إذا أخذوا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين، ويحمدا ثلاثا وثلاثين، ويكبرا أربعا وثلاثين، لما سألته الخادمَ، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلّمها ذلك، وقال: "إنه خير لكما من خادم". فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم. اهـ .
فاللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين…
ثم اعلموا أن من أعظم الذكر، وأجله كثرة الصلاة على نبيكم…