عناصر الخطبة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمر بذكره في كل الأوقات، وخاصةً في أدبارِ الصلوات، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاةَ، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله وخيرته من جميع البريات، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً ما تعاقبت الأوقات.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلمُوا أَنَّ الله أمرَكُم بالإِكثار من ذكره، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(42)﴾ [الأحزاب:41-42].
وخصَّص سبحانه: الأمرَ بذكره بعد أداء العبادات، فأمرَ بذكره بعد الفراغ من الصلوات، فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء:103].
وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة:10].
وأمر بذكرِهِ بعد إكمال صيام رمضان، فقال سبحانه: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].
وأمر بذكره بعد قضاء مناسك الحج، فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة:200].
وذلك -والله أعلم- جبرٌ لما يحصُلُ في العبادة من النقص والوساوس، ولإِشعار الإِنسان أنَّهُ مطلوبٌ منه مواصلةُ الذكر والعبادة، لئلاَّ يَظُنَّ أنه إذا فَرَغَ من العبادة، فقد أدَّى ما عليه.
والذكرُ المشروع بعد صلاة الفريضة: يجبُ أن يكونَ على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا على الصفة المحدثة المبتدعة التي يفعَلُها الصوفية المبتدعة.
ففي صحيح مسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرَفَ من صلاته، استغفرَ الله، ثلاثاً، وقال: "اللهُمَّ أنتَ السلامُ، ومنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرام".
وفي الصحيحين عن المغيرةِ بن شُعبة -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا فَرَغَ من الصلاةِ، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهُمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ".
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُهَلِّلُ دُبُرَ كل صلاةٍ حينَ يُسَلِّمُ بهؤلاء الكلمات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير، لا حولَ ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ، له النعمة، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسن، لا إله إلا الله مخلصينَ له الدين ولو كَرِهَ الكافرون".
وفي السنن من حديث أبي ذر: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قال في دُبُرِ صلاة الفجر وهو ثانٍ رجلَيْه قبل أن يتكلَّمَ: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، يحيي ويميتُ وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، عشر مرات، كُتِبَ له عشر حسنات، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئات، ورُفِعَ له عشرُ درجات، وكان يومهُ ذلك كلُّه في حِرْزٍ من كل مكروهٍ وحرس من الشيطانِ، ولم ينبغِ لِذَنْبٍ أن يُدرِكَه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله"[قالَ الترمذي: "هذا حديث حسنٌ صحيح].
وَوَرَدَ: أنَّ هذه التهليلات العشر تُقالُ بعدَ صلاةِ المغرب أيضاً، من حديثِ أم سلمة عند أحمد وحديثِ أبي أيوب الأنصاري في صحيح ابن حبان، ويقول بعد المغرب والفجر أيضاً: "ربِّ أجِرْني من النارِ" سبعَ مرات، لِما رواه أحمدُ وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
ثُم يسبِّحُ الله بعدَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، ويحمَدُه ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقولُ تمامَ المئةِ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ" لِما روى مسلم: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحَمِدَ الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّرَ الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، ثم قالَ تمامَ المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ غُفِرَتْ له خطاياه، وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحر".
ثم يقرأُ: آيةَ الكرسي، وقل هو الله أحد، وقُل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذُ بربِّ الناس؛ لِما رواه النسائي والطبراني عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قرأَ آيةَ الكرسي دُبُرَ كُلِّ صلاة لم يمنَعْهُ من دخولِ الجنة إلا أن يموتَ".
يعني: لم يكن بينَه وبينَ دخول الجنة إلا الموتُ.
وفي حديث آخر: "كانَ في ذِمَّةِ الله إلى الصلاة الأخرى".
وفي السنن عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أقرأَ المعوذتين دُبُرَ كل صلاةٍ".
عبادَ الله: دلَّت هذه الأحاديث الشريفة على مشروعيةِ هذه الأذكار بعد الصلواتِ المكتوبة، وعلى ما يحصُلُ عليه مَنْ قالَها من الأجرِ والثواب.
فينبغي لنا المحافظةُ عليها، والإِتيان بها على الصفةِ الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن نأتيَ بها بعدَ السلام من الصلاة مباشرةً قبلَ أن نقومَ من المكان الذي صلَّينا فيه، ونرتِّبَها على هذا الترتيب.
فإذا سلَّمنا من الصلاةِ، نستغفرُ الله ثلاثاً، ثم نقولُ: اللهُمَّ أنتَ السلام ومنك السلام تباركتَ يا ذا الجلال والإِكرام، ثم نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانَع لِما أعطيتَ ولا مُعطيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ.
أي: لا ينفع الغنيَّ منك غناهُ، وإنَّما ينفعُه العملُ الصالح.
ثم نقولُ: لا حول ولا وقوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسنُ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كَرَه الكافرون.
ثم نسبِّحُ الله ثلاثاً وثلاثين، ونحمَدُه ثلاثاً وثلاثين، ونكبِّرهُ ثلاثاً وثلاثين، ونقولُ تمامَ المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير.
وبعدَ صلاةِ المغرب وصلاة الفجر نأتي بالتهليلاتِ العشرِ، ونقول: ربِّ أَجرنِي من النارِ، سبعَ مراتٍ.
ثم بعدَ أن نفرَغَ من هذه الأذكار على هذا الترتيب نقرأُ آيةَ الكرسي، وسُوَرَ: قُل هو الله أحد، والمعوِّذتين، ويُستحَبُّ تكرارُ قراءة هذه السُّوَرِ بعد صلاةِ المغرب، وصلاةِ الفجر ثلاثَ مراتٍ.
ويُسْتَحَبُّ الجَهْرُ بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير، عَقِبَ الصلاة، لكن لا يكون بصوتٍ جماعي، وإنَّما يرفع به كلُّ واحدٍ صوتَه منفرداً.
ويستعين على ضبط عدد التهليلات، وعددِ التسبيح والتحميد والتكبير، بعقد الأصابعِ؛ لأنَّ الأصابعَ مسؤولات مُستنطَقات يومَ القيامة.
ويُباحُ استعمالُ السبحةِ، لِيَعُدَّ بها الأذكارَ، والتسبيحات من غيرِ اعتقاد أنَّ فيها فضيلةً خاصةً، وكَرِهَها بعضُ العلماء، وإن اعتقد أنَّ لها فضيلةً، فاتخاذُها بدعةٌ، وذلك مثلُ السُّبَحِ التي يتخذُها الصوفيةُ، ويعلِّقُونها في أعناقِهم، أو يجعلونها كالأسورةِ في أيديهم.
وهذا مع كونه بدعةً، فإنَّ فيه رياءً وتكلُّفاً.
ثم بعدَ الفراغ من هذه الأذكار يدعو سرّاً بما شاء، فإنَّ الدعاءَ عَقِبَ هذه العبادة وهذه الأذكار العظيمة أحرَى بالإِجابة، ولا يرفَعُ يديه بالدعاءِ بعد الفريضة كما يفعَلُ بعضُ الناس، فإن ذلك بدعةٌ، وإنما يفعَلُ هذه بعدَ النافلة أحياناً.
ولا يجهَرُ بالدعاءِ، بل يُخفيه؛ لأنَّ ذلك أقربُ إلى الإِخلاص والخشوع، وأبعدُ عن الرياء.
وما يفعلُه بعض الناس في بعضِ البلاد من الدعاء الجماعي بعد الصلوات بأصوات مرتفعة مع رفعِ الأيدي، أو يدعو الإِمام والحاضرون يؤمِّنونُ رافعي أيديهم، فهذا العملُ بدعةٌ منكرةٌ؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كانَ إذا صلَّى بالناسِ يدعو بعدَ الفراغِ من الصلاة على هذه الصفة لا في الفجر ولا في العصر، ولا غيرهما من الصلوات.
ولا استحَبَّ ذلك أحدٌ من الأئمة.
قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية، مَنْ نَقَلَ ذلك عن الإِمام الشافعي فقد غَلِطَ عليه، فيجبُ التقيدُ بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وفي غيره؛ لأنَّ الله -تعالى- يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر:7].
ويقول سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمرَ بالتزوُّدِ من الخيرات، وذلك بفعلِ الطاعات، والإِكثار من الحسنات.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، تُسَبِّحُ بحمدِهِ الأرضُ والسماواتُ وجميع المخلوقات، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، حَثَّ على أداءِ السنن والرواتبِ بعد الصلوات المفروضات، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانَ تنافُسُهم في المسابقةِ إلى الخيرات، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
عبادَ الله: اتقوا الله -تعالى-، وأكثروا من الحسنات، وتوبُوا من السيئات، وحافظوا على الصلوات، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114].
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- شَرَعَ لكم سنناً رواتبَ مع الفرائض، وهي سننٌ متأكدة يُكْرَهُ تركُها، ومن دوامَ على تركِها سَقَطَتْ عدالتُه، فتُرَدُّ شهادتُه؛ لأنَّ ذلك يدُلُّ على قلةِ دينه، فحافِظُوا عليها.
وهي عشرُ ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ركعتان قبلَ الظهر، وقيل: أربع ركعات، وهو الصحيح، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبلَ صلاة الفجر بعدَ طلوع الفجر؛ لقولِ ابنِ عُمر -رضي الله عنهما-: "حَفِظْتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرَ ركعات: ركعتينِ قبلَ الظهر، وركعتين بعدَها، وركعتين بعدَ المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبلَ الصُّبح، كانت ساعةً لا يدخُلُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أحدٌ، حدَّثتني حفصةُ: أنَّه كان إذا أذَّنَ المؤذنُ، وطلع الفجر صَلَّى ركعتين" [متفق عليه].
وقالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيءٍ من النوافل أشدَّ تعاهُداً منه على ركعتي الفجرِ"[متفق عليه].
وفي صحيح البخاري: عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ لا يَدَعُ أربعاً قبلَ الظهر.
ومَنْ فاتته راتبةُ الفجر قبلَها، فالأفضلُ أن يصلِّيَها بعدما تطْلُعُ الشمس، وإن صلاَّها بعدَ صلاة الفجر، فلا بأسَ.
واعلموا أنَّ خيرَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-…