عناصر الخطبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا أنّ الحديث في الجمعة الماضية كان عن أسرار سورة الفاتحة, ونستكمل في هذه الجمعة ما تيسر من عجائبها ولطائفها.
معاشر الصائمين: إذا أردنا أن نعرف قدرَ هذه السورةِ وعلوَّ شأنها, فلْنتدبرها تفصيلاً, ولْنغُصْ في معانيها وأسرارها تأمُّلاً وتحليلاً, فهذا حقُّها علينا؛ كيف لا؟ ونحن نقرؤها كلَّ يومٍ سبع عشرة مرة على أقل تقدير. فهاك -أيها المسلم المصلي- عجائب وبلاغةَ هذه السورةِ العظيمة.
فمن أسرار الفاتحة: أنها بالنسبة للقرآن كالخطبة, أو المقدمةِ بالنسبة للكتاب، والقرآن شرحٌ لها، ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل، هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله -تبارك وتعالى- من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم، فكيف إذا كان الكتاب كتاب الله رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير؟ ما ظنك بشأن السورة التي هي فاتحته وأم مقاصده؟.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جَاءَ مَأْثُورًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ, جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ, وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ, وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ, وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ, وَجَمَعَ عِلْمَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾, وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ… وقد تأملت أنفع الدعاء, فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. انتهى كلامه رحمه الله.
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب، ونَيْلُه أشرف المواهب؛ علَّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمَده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم.
توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته, وهي قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:2-4]، وتوسُّلٌ إليه بعبوديته وهي قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُرد معهما الدعاء.
ثم قال -تعالى-: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:7], فأنت تدعو في صلاتك كل يومٍ, أنْ يُجنبك صراط الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ, الذين عرفوا الحق وتركوه, كاليهود ونحوهم, وغير صراط الضَّالِّينَ, الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
ثم تأملوا كيف قال الله -تعالى-: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾, ولم يقل: نعبدك, وقال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾, ولم يقل: نستعين بك, وذلك لقصد الاختصاص والحصر، والمعنى: نَخُصُّكَ بالعبادة ونخصك بالاستعانة.
ثم لننظر -من ناحية أخرى- كيف عبر عن العبادة والاستعانة بلفظ الجمع لا الإفراد، فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ولم يقل: أعبد وأستعين، وذلك إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام, فالدين الإسلامي ليس ديناً فردياً، بل هو دينٌ جماعي، وكثيرٌ من مظاهر الجماعية واضحٌ فيه، كصلاة الجماعة وغيرها.
ثم إنَّ هذه الآية تُعالج مرضين خطيرين, وهما الرياء والكبر, فإذا قلت: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، أي: لا تعبد ولا تتقرب إلا إليه -سبحانه-, ولا تصرف شيئًا من العبادة والطاعة لغيره, وإذا قلت: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾, أي: إني ضعيفٌ لا حول لي ولا قوة إلا بك سبحانك, فإن لم تُعنِّي على عبادتك فلن أقدر على أدائها, مهما أُوتيتُ من قوةٍ ونشاطٍ وعلم.
وتأملوا كيف أضاف الله -تعالى- النعمة إليه في قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾, وحذف فاعل الغضب في قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، ولم يقل: غضبتَ عليهم, وفي حذف فاعل الغضب, من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه, ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعَم عليه, والإشادة بذكره ورفع قدره, ما ليس في حذفه.
بارك الله لي ولكم…
الحمد لله الذي جعل القرآن هدىً للناس وشفاءً، ونوراً وضياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: معاشر المسلمين، وقد اشتملت الفاتحة على شفاءين: شفاءِ القلوب، وشفاء الأبدان.
فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال، فإنَّ القلب له مرضان عظيمان, إنْ لم يتداركهما العبدُ ويجتنبْهُما فإنّ مآلَه إلى التلف ولا بد, وهما: الرياء، والكبر؛ فدواء الرياء بـ "إياك نعبد", ودواء الكبر بـ "إياك نستعين".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "إياك نعبد" تدفع الرياء, و"إياك نستعين" تدفع الكبرياء".
وأما ما تضمن من شفاء الأبدان, فقد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَانْطَلَقَ أحدُهم يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فَكَأَنَّمَا نشِط مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ, فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟"، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْتَسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا".
قال ابن القيم -رحمه الله-: فَقَدْ أَثَّرَ هَذَا الدَّوَاءُ فِي هَذَا الدَّاءِ، وَأَزَالَهُ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ أَسْهَلُ دَوَاءٍ وَأَيْسَرُهُ، وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ، لَرَأَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ.
وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاء وَلَا أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا. انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن رجب: القرآنُ كلُّه شفاءٌ، والفاتحةُ أعظمُ سُورةٍ فيه، فلها من خصوصيَّة الشِّفاءِ ما ليس لغيرِها، ولم يَزْل العارفون يتَداوَون بها من أسقامِهم، ويجدون تأثيرَها في البُرْءِ والشِّفَاءِ عاجلاً. انتهى كلامه رحمه الله.
هذا ما تيسر إيراده من أسرار هذه السورة العظيمة، ولطائفُها وبلاغتُها أكثر من هذا بأضعاف مضاعفة, ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق, نسأل الله -تعالى- أنْ يعلمنا ما ينفعُنا, وينفَعَنا بما علّمنا, إنه سميع قريب مجيب.