عناصر الخطبة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلّم تسليماً كثيراً.
أَمّا بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى كما أمركم بذلك، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
عباد الله: اعلموا أن الرفق من الأخلاق العظيمة، التي عَمِلَ بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحَثَّ عليها، ورَغّب فيها.
فعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" رواه أحمد وصححه الألباني.
فقد عظّم النبي -صلى الله عليه وسلم- شأن الرفق في الأمور كلها، وبيّن ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله -عز وجل-؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم.
وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي يبيّن فضل الرفق، والحث على التخلق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذم العنف وذم من تخلق به.
فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض، ويسهل من المطالب ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده.
وقد حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من العنف، وعن التَّشديد على أمَّته، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: "اللهمَّ مَنْ وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به" أخرجه مسلم.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير، ونهاهم عن التنفير، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال: "بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا" أخرجه مسلم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله -عز وجل- بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق" أخرجه أحمد وصححه الألباني.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري ومعاذ -رضي الله عنهما- حينما بعثهما إلى اليمن: "يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا" متفق عليه.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا" متفق عليه.
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتعسير في وقت، ويُبشّر في وقت ويُنفّر في وقت آخر، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسَّر مرة أو مرات، وعسَّر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تُعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب.
وكذا يقال في يسّرا ولا تُعسرا، وبشّرا ولا تُنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد حث في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته؛ ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قَرُبَ إسلامه وتَرْكُ التّشديد عليه، وكذلك من قَارَبَ البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً.
وقد كانت أمور الإسلام في التّكليف على التّدريج، فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المُريد للدخول فيها، سَهُلَتْ عليه، وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها؛ ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها.
وهكذا تعليم العلم، ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم.
فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير، وحذرهم من كل شر، ودعا على من شق على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة، وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم.
وكان -صلى الله عليه وسلم- رفيقاً يحب الرِّفق، ويعمل به.
ومن الأمثلة العظيمة التي تُبيّن فضل الرفق وعُلوّ منزلته ما ثبت عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إن فتىً شاباً أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا لـه: مه! مه!.
فقال لـه: "ادنه"، فدنا منه قريباً، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم". قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم". قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم". قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم". قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم".
قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد والألباني.
وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله -عز وجل- أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم.
وكما يبين لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرّفق بفعله بينه لنا بقوله، وأمرنا بالرفق في الأمر كله.
ومما يدل على عظم الرفق وعلوّ منزلته ما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السّامُ واللعنة.
قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "مهلاً يا عائشة، إن الله يُحبّ الرفق في الأمر كله"، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "قد قلت وعليكم" رواه البخاري.
وقال -صلى الله عليه وسلم- : "يا عائشة، إن الله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه" رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم- : "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم.
وبين -صلى الله عليه وسلم- أن من حُرِمَ الرفق فقد حُرِمَ الخير، قال -صلى الله عليه وسلم- : "من يُحرم الرفق يُحرم الخير" رواه مسلم.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أُعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" أخرجه الترمذي وصححه.
وعنه -رضي الله عنه- يبلغ به قال: "من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن" أخرجه أحمد وصححه الألباني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من أعطي حظه من الرفق واللين فقد أعطي حظه من خيري الدنيا والآخرة، ومن حُرِمَ الرفق فقد حُرم حظه من الخير، نعوذ بالله تعالى من ذلك.
ويجب على العبد المسلم أن يقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في رفقه ولينه، لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21].
هذا وصلوا على خير خلق الله نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم الله -تعالى- بذلك فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً" رواه مسلم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وارضَ اللهم عن أصحابه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعَنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وجميع ولاة أمر المسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين، وأعذهم من عذاب القبر وعذاب النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغنى، اللهم اهدنا وسددنا، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:202].
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:45].