عناصر الخطبة
لقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على عُلُوِّ شأنِ وعِظَم منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى عدَّه بعض العلماء سادسَ أركان الإسلام: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110].
وهي تكفير للسيئات، ورفعة في الدرجات، ففي الحديث: "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقد قال أيضًا: "وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة".
وهو أحد الأشراط المهمة للنصر والتمكين: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج:41]، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم منصورون ومُصيبون ومفتوحٌ لكم؛ فمَن أدرك ذلك منكم فلْيَتَّقِ الله، ولْيَأْمُرْ بالمعروف، ولْيَنْهَ عن المنكر".
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن رأى منكم مُنْكَرًا فلْيُغَيِّرْهُ بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان".
وبيَّن أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا فشا في الأمة وارتفعت راياته تميزت السنة من البدعة، وعُرِفَ الحلالُ من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف وأَلِفَته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه، ونُكِّست رايات النفاق، وانزوى أهل الباطل.
والعكس بالعكس؛ إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعُطِّلت هذه الشعيرة؛ فويلٌ يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين، وويلٌ لأهل الصلاح من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين.
وإن فشو المنكرات، وكثرة الخبث، لَمُنْذِرٌ بعموم العقاب؛ لما سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
وقال: "ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر وأعزُّ مِمَّن يعمل بها ثم لا يغيرونه؛ إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب".
وشيوع المنكرات يطفئ جذوة الإيمان؛ فتموت الغيرة على الحرمات، وتسود الفوضى، وتنتشر الجريمة، ويحيق بالقوم مكر الله: "والذي نفسي بيده! لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليُوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".
وبالجملة؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان للأفراد والمجتمعات، كما قال سفيان رحمه الله: "إذا أمرتَ بالمعروف شدَدْتَ ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر، أرغمت أنف المنافق". وإن ترك هذه الشعيرة ضياع للأفراد والمجتمعات.
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلاد المسلمين من كل سوء؛ وقد جاء في الأثرِ أن الله -جل وعلا- أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة كذا على من فيها -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، وله ستمائة جناح، بجناح واحد حمل أربع قرى فرفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل عاليهم سافلهم- أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها.
فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلاناً، لم يعصِك طرفة عين! قال الله: فبِهِ فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط.
لا إله إلا الله! يصلي، ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين، ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102]، (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي: "إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعَنَهُمُ الله، وعمَّهم بعقاب وغضبٍ من عنده".
وكان -صلى الله عليه وسلم- متكئًا فتربع، وجلس، وقال: "كلا، والذي نفسي بيده! لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم". لا إله إلا الله! نعوذ بالله من لعنة الله وغضبه.
"لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم"، "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم".
إنه طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- أوذي فيه، ووضع سلا الجزور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف، وما استكان، وما هان؟
ها هو عبد الله بن علي الحاكم العباسي عم أبي جعفر المنصور يوم دخل دمشق محتلاً؛ دخلها في يوم واحد فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات؛ كان من جبابرة الدنيا، حتى إنه أدخل الخيول في مسجد بني أمية.
ثم دخل قصره وقال: من يعارضني فيما فعلت؟ قالوا: لا يعارضك أحد. قال: أترون أحدا من الناس يمكن أن ينكر عليَّ. قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا الأوزاعي -عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد، المحدث الكبير- قال: عليَّ بـالأوزاعي.
فلما نُوِدي الأوزاعي؛ علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ فقالوا للأوزاعي: إن عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، والدماء لا زالت تجري على أرض دمشق لم تجف.
فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟ لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنودُه، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي، ومَن كنتَ حسبه فقد كفيته، ثم دخل.
وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي به، فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهِب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رؤوسها، ثم قال: أدخِلوا الأوزاعي.
فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي، غضب هذا الأمير غضباً حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول الناس إنِّي الأوزاعي.
وقال الأوزاعي في هذه اللحظة: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى:7]، والله ما دخلت قصره إلا وقد بعت نفسي من الله عز وجل.
قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتِلتُ، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة.
قال: فرفع رأسه، فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟ قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عرياناً كما خلقك؛ فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم، قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج، قال: فخرجتُ، فوالله! ما زادني ربي إلا عزة وكرامة.
يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر أمره وعقوبته.
وقد أعجبني في الحقيقة ما رأيناه في هذا الأسبوع من تواصل الشباب عبر الشبكات الاجتماعية، والمناداة بهجر ومقاطعة أماكن بيع الخمور، وأماكن بيع الخنزير، داعين المجتمع إلى التعاون معهم، قاصدين الخير والرحمة لبلادهم.
أسأل الله أن يوفق الأمة إلى القيام بمسؤولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
قال الله تعالى مخاطباً محمداً -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(166)﴾ [الأعراف:163-166].
هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلاً.
فانقسم الناس حيال أمر الله -عز وجل- إلى أقسام، وهم في كل زمان بهذه الأقسام: قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهاراً إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد. أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم.
وقسم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يُسْمَع لهذا القسم.
وقسم آخر: قال اتركوهم، لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم؛ فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله -عز وجل- يوم يجمع الأولين والآخرين؛ علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم.
بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- بجعل سور بينهم وبين الفَجَرةِ الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة.
أما القسم الآخر فسكتوا ولم يمكروا، لكنهم رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل.
ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير.
ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم ما احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل، ولا يظلم ربك أحداً.
أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى: ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾.
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر، أن الله أوحى إلى يوشع بن نون -عليه السلام- أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟! قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم.
هذا وصلوا وسلموا…