عناصر الخطبة
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، الذي شرع لكم مواسم الخير، وفتح لكم أبواب الخيرات، وأجزل عليها المثوبات، ويسر للعبد فعلها، وجعل له عليها أعوانا يشدون من أزره، فما أكرمه من إله علي قدير.
معاشر المسلمين: نحن في شهر شعبان، وهذا الشهر له أحكام وفيه فضائل، لا يقوم بها إلا من علمها ووفق لذلك، ولنعرض شيئا من ذلك.
شهر شعبان شهر يغفل الناس فيه عن العبادة، فهو بين رجب ورمضان، وأقرب موسم خير مر قبله هو صيام يوم عاشورا، فالناس في بعد عن مواسم الخير، ولهذا نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فضل صيام شهر شعبان بقوله وفعله [أخرجه أحمد والنسائي [2317] بسند حسن] من حديث أسامة بن زيد يقول صلى الله عليه وسلم عن شعبان: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
ولهذا كان يصوم عليه الصلاة والسلام في شعبان كما أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: "لم أرَه أكثر صياماً في شهر قطُّ من صيامه في شعبان؛ كان يصوم شعبانَ كلَّه .. كان يصوم شعبان إلا قليلا".
ويقول أنس: "وكان أحبُ الصوم إليه في شعبان".
فصيام شعبان قبل رمضان؛ كالسنّة الراتبة القبلية والست من شوال كالسنّة الراتبة البعدية.
فينبغي للعبد أن يستغل هذا الشهر بالصيام، وأن لا يفوت الأيام الفاضلة فيه، كصيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر.
عباد الله: يتساءل البعض عن الصوم في النصف الثاني من شعبان هل يجوز أم لا؟
وقد ورد في ذلك حديث أبي هريرة: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" [رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه].
فيجاب عنه أنه حديث ضعيف.
فإن جهابذة أهل الفن قد ضعفوا هذا الحديث كالإمام أحمد وابن مهدي وابن معين وابن المديني وأبي زرعة والأثرم وعدوه من الأحاديث المنكرة، بل قال أحمد: لم يرو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنكر من هذا الحديث، وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه، وقال ابن رجب: أكثر العلماء على أنه لا يعمل بهذا الحديث.
فلا بأس على المسلم أن يصوم في النصف الثاني من شعبان ولو لم يكن قد صام في النصف الأول، غير أنه لا يجوز له أن يصوم آخر يومين من شعبان إلا لمن كانت له عادة؛ لما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال – صلى الله عليه وسلم -: "لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصم".
وللنهي عن تقدم صوم رمضان بصوم يوم أو يومين عدة حكم منها: الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل؛ لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، ومنها التقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض [لطائف: 307-309].
ومن الأعمال الفاضلة في شعبان، قراءة القرآن:
قال أنس: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجو زكاة أموالهم تقوية لضعيفهم على الصوم.
وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القرآن.
وكان قيس بن عمر الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وأكب على قراءة القرآن.
وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء[الطائف: 290].
فالله الله بقراءة القرآن، فهو كلام الله وبه تحيى القلوب وتستنير العقول وتمتلئ الخزائن.
اللهم بلغنا رمضان وارزقنا فيه صالح الأعمال والأقوال.
أما بعد:
فيا أيها الناس: ها قد اقتربت أوقات الرحمة والمغفرة والعتق من النار، أفلا يجدر بنا أن نستعد لها.
إن شهر شعبان شهر تكثر فيه الغفلة، وذلك لبعده عن مواسم الخيرات، فيكون الذي يعبد الله في زمن الغفلة هذا أعظم أجراً.
وكان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين ويقولون هي ساعة غفلة[لطائف: 282].
وفي إحياء الوقت المغفول عنه فوائد: منها أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ومنها: أنه أشق على النفوس لقلة الموافقين، ومنها: أن المنفرد بالطاعة عن أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس فكأنه يحميهم ويدفع عنهم[لطائف: 283-287].
وهكذا -أيها الإخوة- يكون العابد المجد في هذا الشهر قد حاز فضيلتين: حسن الاستعداد لرمضان، والذكر زمن الغفلة.
عباد الله: يعتقد البعض أن ليلة النصف من شعبان ويومها له مزية من بين الليالي والأيام، حتى إن بعضهم فضلها على ليلة القدر، وأقول إن كل ما يروى في فضلها لا يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأصح ما ورد فيها ما أخرجه [ابن ماجة1390، وابن أبي عاصم، واللالكائي].
ومن حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن".
واختلف في تصحيحه، وعلى القول بصحته فلا يدل على تخصيص الليل بالقيام والنهار بالصوم، بل فيه فضل التوحيد وسلامة الصدر.
أما صوم يوم النصف من شعبان مفرداً باعتبار أن له فضيلة معينة، فلا أصل له، بل إفراده بدعة، والحديث الوارد في ذلك موضوع.
أما إحياء ليلة النصف من شعبان بالعبادة:
فلم يثبت في قيام ليلة النصف من شعبان شيء عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ولا عن أصحابه -رضوان الله عليهم-، ومن ثم اختلف أهل العلم أيضاً في مشروعية إحياء هذه الليلة بعبادة معينة كقيام ونحوه، والصحيح من أقوالهم أنه لا يشرع إحياء هذه الليلة بأي نوع من أنواع العبادة، سواء أكان إحياؤها جماعة أو فرادى، فذلك كله بدعة محدثة، وهو قول أكثر علماء أهل الحجاز منهم: عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، ونسبه ابن حجر الهيتمي إلى الشافعية، وهذا اختيار سماحة الإمام ابن باز والشيخ ابن عثيمين – رحمهما الله – تعالى -.
وجاء في كتاب "الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي ص263-264" وكتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص125" أن ابن وضاح روى عن زيد بن أسلم قال: "ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلا على ما سواها.
وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادا النميري يقول: "إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر، فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته"، وكان زياد قاصا.
وختاماً: ينبغي لمن أراد إدراك فضيلة هذه الليلة أن يحقق التوحيد الخالص، وينأى بنفسه عن الشرك وذرائعه، ويصفح عما بينه وبين أخيه من عداوة وشحناء، حتى تشمله رحمة الله -جل وعلا- ومغفرته، وهذا غاية ما تفيده جملة الأحاديث الواردة في هذا الباب -إذا صحّت-، أما إحداث البدع فيها والتي ما أنزل الله بها من سلطان، فإن أهلها على خطر عظيم حتى يقلعوا عن بدعتهم.
اللهم اجعلنا من أهل السنة…